سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

التبشير بحراً

غير صحيح أن مهمة أكبر معرض عائم للكتاب في العالم، هي فقط التبادل الثقافي، وتقديم المعونة الإنسانية لمن يحتاجها. «لوغوس هوب» أو «كلمة الأمل»، السفينة التي أحدثت لغطاً كبيراً بوصولها إلى شواطئ بنغازي في ليبيا، ليست هذه زيارتها الأولى للبلاد، بل الثالثة. لكن لكل زيارة ظروفها، وليبيا قبل 15 عاماً كانت أقل رهبة من المجهول وهشاشة أمام عصف الريح. الأهم أن سفينة الكتب هذه تجوب هي وشقيقاتها الموكلات بنفس المهمة بحار الدنيا منذ 50 سنة، ومع ذلك قليلاً ما سمعنا عن مخاوف كبيرة، وإحساس بالتهديد، بل تستقبل بأذرع مفتوحة.
وانقسم الناس في ليبيا حول «كلمة الأمل»، كما يحدث في كل مرة يتعاظم فيها الخلاف، إلى طرفين متشددين. مكتب الأوقاف دعا السكان لمقاطعتها بكل السبل، لأنها «تشكل خطراً على عقيدة المسلم وثوابت دينه، الذي هو أعز ما يملك». وفئة أخرى دافعت بشراسة، ورأت أن استقبال السفينة في بنغازي هو رسالة بأن المدينة تنتقل بالفعل من حالة الحرب والجماعات الإرهابية إلى الانفتاح والتبادل الثقافي، بعيداً عن المنع والتهميش. ونفى هؤلاء أن تكون ثمة «شبهات بالتبشير وراء هذا المعرض». والحقيقة أن المسلمين في بنغازي، كما في مدينة مصراتة التي رفضت استقبال السفينة، لن يغيروا دينهم ولا عقيدتهم إذا ما رأوا الإنجيل أو عرض أمامهم عدد من الكتب الدينية المسيحية. كما أن التبشير، وحمل رسالة المسيح، ليس مما تخفيه الجمعية الألمانية صاحبة المشروع، وهو ما يردده المتطوعون على متن السفينة، في فيديوهات «اليوتيوب» التي ينشرونها باستمرار، كما أنهم لا يتنكرون، ولا يتسترون على دوافعهم الدينية، فمن أراد استقبالهم فعل، ومن لم يرد، ذهبوا بكتبهم إلى غيره. وهي بالمناسبة متنوعة، وفي مختلف الاختصاصات، ولكلٍ حرية أن يختار ما يريد.
عام 2005 رست في ميناء بيروت سفينة «دولوس» التي سبقت «لوغوس هوب» إلى المهمة نفسها. وهي باخرة عريقة من نسل «تيتانيك» وفي مثل عمرها، وسلالتها، وسعد الجميع بفكرة شراء الكتب واكتشافها في البحر وبأسعار مغرية، خاصة الأطفال الذين لهم حصة الأسد، ورعاية خاصة. وبدا المتطوعون وهم يستقبلون الناس في غاية الدماثة واللطافة، وبالطبع وجدت الكتب الدينية المسيحية، كما بقية الكتب الأدبية والفكرية والعلمية، وعرض علينا الكتاب المقدس، هدية، وكان لنا خيار اقتنائه أو تركه، ولا يعتقد من يومها أن عدد المسلمين أو المسيحيين، تغير في لبنان بسبب «دولوس» التي جابت 151 دولة، وزارها 44 مليون شخص، قبل أن تشيخ وتحال على التقاعد عام 2009. ما يعنينا أن مهمة الجمعية التبشيرية الألمانية، التي تدير أسطول «المحبة والسلام» بحسب ما تقول، مستمرة منذ عام 1970. والأهم أن المشروع يتطور، والسفن تزداد حداثة، وعددها يكبر. و«كلمة الأمل» دخلت الخدمة عام 2004 بمطاعمها ومقاهيها وأماكنها التفاعلية، لتصبح أكبر معرض كتاب عائم. وبعد 4 سنوات جابت خلالها السفينة موانئ آسيا، قررت أن تكرّس 10 سنوات لأفريقيا، وأميركا الجنوبية وبحر الكاريبي. مئات المتطوعين على متن الباخرة ينتمون إلى ما يقارب 60 دولة، حرصاً من المنظمين على توافر مختلف اللغات، والتواصل مع الشعوب التي يزورونها، بلغتها الأم أو اللغات التي يجيدونها. ولكل متطوع مهمته في البيع، أو العناية بالكهرباء أو الميكانيك وربما الطبخ والتنظيف. قد يبقى واحدهم لأسبوعين أو ما شاء من السنين، وبعضهم يأتون مع عائلاتهم، يسدون الخدمات لمن يحتاجها في الموانئ، يتشاطرون الألعاب الرياضية، أو يسهمون في البناء أو الطلاء أو الطبخ وإطعام السكان المحليين. وزارت الباخرة حين رست في السودان منقبات ومحجبات، وسعد كثيرون لأنهم وجدوا كتباً ومراجع، لم تصلهم من قبل. وبمبادرة حُسن نية عرضت السفينة إلى جانب الكتاب المقدس القرآن، احتراماً للزوار المسلمين.
تحتاج الحياة حنكة ودبلوماسية، وخطوات باتجاه الآخر. أما الإصرار على أن مهمتنا تتوقف عند صد الغزو الثقافي وكفى، بالرفض وتوجيه الاتهامات، فتلك هي الهزيمة بعينها. فأنت إما مقبل أو مدبر، مهاجم أو منسحب. إدمان لعب دور الضحية هو استسلام لفخ ننصبه لأنفسنا. على برنامج «كلمة الأمل» مدينتان في تونس بعد بنغازي، ومن ثم بورسعيد في مصر، وهي ماضية في مهمتها السعيدة، لسنوات مديدة أخرى.
وكانت الأديان للإنسان باعثاً على الاجتهاد. تعلم المسلمون الكتابة، لحفظ القرآن من الضياع. عندما بدأ عصر التدوين، استماتوا في النسخ، ومن أجل ضبط آياته، وضعوا التنقيط وابتكروا الحركات، ثم طوروا الحروف، وتفننوا في كتابتها، ليجعلوا منها متعة إبداعية. ونواة أفضل المكتبات ولدت في الأديرة. وهناك بدأت الأرشفة وعمليات التنظيم والترتيب. «المكتبة هي الكنز الحقيقي لأي دير، فهو بغيرها ليس سوى مطبخ بلا قدور»، هذا ما كتبه الباحث ألفريد فرنكلين في مؤلفه «المكتبات القديمة في باريس»، عام 1873، ليدلل على أن الكتب كانت الزاد والبئر التي ينهل منها رجال الدين.
أن تكون الأديان ولهيب حرارة إيمانها محركاً للجمال والخير والعمل، ليس عيباً. بل التقاعس عن إخراج أجمل ما فينا لخدمة قضايانا ومبادئنا ومعتقداتنا، هو أسوأ ما نرتكبه منذ أكثر من 100 سنة.