توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

الرزية العظمى

سؤالان، الأول: لماذا لا يستطيع عامة الناس مناقشة أحكام الدين والمشاركة في استنباطها؟ الثاني: لماذا لا يُسمح بإخضاع الأحكام والقيم الدينية للنقد، بناءً على مستخلصات العلم وأحكام العقل؟
لكلا السؤالين جوابٌ واحدٌ، خلاصته أن فقهاء المسلمين لا يرون العقل أهلاً لتشخيص المصالح والمفاسد، أو الانفراد بتحديد الحسن والقبيح من الأفعال، وتبعاً تحديد ما يترتب على الفعل من ثواب أو عقاب.
وهذا نقاش قديم في الفكر الإسلامي، تناول مصدر القيم، والمرجع في تحديد ما هو حق وما هو خير، وما يعاكس ذلك. وبسببه انقسم العلماء بين أقلية تدَّعي أن العقل مؤهل لإدراك الحق وتحديد الحسن والقبح، وأكثرية ترى أن تبني هذا الرأي سيقود للتساهل في التزام أحكام الشريعة، لا سيما تلك التي تنطوي على كلفة. كما قالوا إن اتباع أحكام العقل في العقائد، سيفتح باباً لنفوذ أفكار أجنبية غريبة عن روح الإسلام ومقاصده.
ربما يظنُّ القارئ أنَّ إحياء النقاش في هذا الأمر قليل الجدوى. واقع الأمر أننا نواجه اليوم النتائج المريرة لتراجع الاتجاه العقلي (وتبعاً قيمة العلم) في الثقافة الإسلامية، حتى صرنا نقرأ لأستاذ جامعي أو محامٍ بارع أو طبيب مشهور، كلاماً من قبيل أنَّ «إبليس كان ملكاً يعبد الله، ثم انحرف عن الجادة حين استخدم عقله، فقاس خلقه على خلق آدم». أو تقرأ كتابة لفقيه يتبعه آلاف الناس، ينقل فيها رواية فحواها: «لو كان الدين بالرأي، لكان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما». ومثل هذه الأقوال تعامَل اليوم معاملة المسلمات؛ بل البديهيات، ثم تُتخذ حجة على قضية في غاية الأهمية والخطر، أعني مكانة العقل والعلم ودوره في تحديد قيم الأفعال، وهي أهم قضايا القيم في حياة الإنسان كلها.
إنني أتفهَّم تماماً بواعث القلق الذي يعبِّر عنه المعارضون لدور العقل؛ لكني أودُّ أيضاً أن يتأملوا معي في سؤال بسيط: كيف فهموا ذلك الباعث؟ وكيف فهموا بالتحديد الربط بين الباعث والمخاطر التي أثارت قلقهم؟ هل استعملوا عقولهم في التوصل إلى هذا الرأي؟ وهل يثقون بهذا النتاج العقلي؟ خذ أيضاً مبرر التساهل في التزام الشريعة، هل يرونه لازماً من لوازم القبول بنتائج العلم وحكم العقل؟ أي: هل الأخذ بحكم العقل علة للتساهل، بحيث لا يمكن الفصل بين الاثنين؟ وهل نستطيع القول -بلا تحفظ- أن التساهل يعني التفريط، أم أنه ينصرف غالباً إلى معنى الأخذ بأيسر الخيارين إذا تراوح الأمر بين اليسر والعسر، كما هو الحال في موارد اختلاف الفقهاء؟
لكن هذا ليس جوهر المشكلة. جوهرها هو ادعاء إمكانية الاعتماد التام على النقل، وتهميش دور العقل. أقول إن هذا جوهر المشكل؛ لأنه ينتهي (دائماً) بولادة واجبات ومحرمات اصطناعية، لا أصل لها سوى الميل للاحتياط الشديد. ونعرف هذا بوضوح في أحكام السفر، والعلاقة مع غير المسلم، ومكانة المرأة، والتشريعات الاقتصادية، والمسافة بين الأخلاقيات والشرعيات، وكثير من القضايا التي حوَّلت الدين الحنيف إلى موضع للجدل والسخرية، كما ساعدت في انحساره يوماً بعد يوم في المجال العام.
لهذه الأسباب، لا أراني مجازفاً لو زعمت بأن تهميش مكانة العلم ودور العقل، وأعني به العقل العام أو ما يعرف ببناء العقلاء، كان من أكبر الرزايا في تاريخ الإسلام وفي حاضره، وأننا في أمَسّ الحاجة للعودة إلى جوهر ديننا الذي جعل العقل في مرتبة واحدة مع نص القرآن وكلام الرسول، في التشريع، وفي إدارة الحياة، وفي صناعة القيم أيضاً.