أحمد محمود عجاج
TT

كيف نقرأ كعرب رفض المحكمة الدستورية الأميركية حقَ الإجهاض؟

مرَّ قرار المحكمة الدستورية الأميركية بصمت في عالمنا العربي، رغم أننا نعيش تداعياته على مستوى الناشطين أو على مستوى الضغوط الدولية على حكومات العرب لكي تصدر تشريعات توسع دائرة الحقوق الشخصية؛ لذا فإن مراجعة القرار ضرورة قانونية وسياسية، لكونه أسقط سابقة مترسخة، تتمثل بدعوى (Wade v Roe) رفعتها امرأة من ولاية تكساس تريد الإجهاض، في الولاية التي تحظره ما لم يكن لإنقاذ حياة الأم؛ أيّدت المحكمة المحلية في الولاية المرأة بأن منع الإجهاض غير دستوري، وبعد استئناف الحكم أمام المحكمة الدستورية العليا في عام 1973 أيد 7 قضاة، مقابل قاضيين، قرار المحكمة في تكساس، على أساس أن التعديل الدستوري الرابع عشر (Fourteenth Amendment) يوفر حق الخصوصية الذي يسمح للمرأة بحق الإجهاض. هذا القرار كان تاريخياً لكونه حسم الخلاف المستعر بين التقليديين والليبراليين في المجتمع الأميركي، لكنه لم يزل الخلاف من التداول المجتمعي والسياسي. التقليديون المحافظون ويتمثلون بالحزب الجمهوري وجدوا بعد قرار المحكمة أن الحل أن تعيد المحكمة نفسها النظر به، وتحسم الخلاف لصالحهم؛ لهذا عملوا على تأهيل محامين يميلون لرأيهم، عسى أن يصلوا يوماً إلى المحكمة الدستورية؛ جاءت الفرصة أيام الرئيس ترمب عندما عين 3 قضاة محافظين ومعروفين بموقفهم من القضية، وبذلك انقلب النصاب لصالحهم، فأيّد 6 من هؤلاء مقابل 3، أن الإجهاض غير دستوري، وكان هذا القرار موازياً في الأهمية لقرارها في عام 1973؛ وكما حدث في السبعينات، شعر الليبراليون بالغبن، وبدأوا حملتهم لتغيير القرار!
القرار متشعب، لكنه يتضمن 3 عناصر مهمة؛ الحقوق الثابتة، وتسييس القضاء، والتبعات المجتمعية.
أولاً؛ الحقوق الثابتة عبر عنها القاضي توماس الذي كتب قرار الأغلبية مع القاضي Alito حيث رأى أن حق الإجهاض ليس حقاً مُدرجاً في الدستور، وأنه مبتدعٌ، ومن واجب المحكمة إلغاؤه، ولو كان مُرسخاً بسوابق قانونية؛ هذا التعليل معناه إسقاط مبدأ زيادة الحقوق أو توسيعها، وبالتالي فإن ما تحقق من حقوق مثل منع الحمل، أو الزواج المثلي، مهدد بالسقوط، لأنه لا وجود لها في الدستور. القاضي Alito رأى أن أي حقوق إذا لم تذكر في الدستور يجب على الأقل أن تكون «متأصلة في تاريخ وتقاليد الأمة» لتحظى بالحماية؛ هذا المعيار يؤدي عملياً إلى إسقاط حق الإجهاض والزواج المثلي وغيره، لأنهما غير متأصلين في تاريخ وتقاليد الأمة؛ ويستشف من هذا التبرير القانوني (وإن لم يقله القاضيان) أن الحقوق ثابتة، لأنها من سلطة عليا هي الدين الذي يمثل مصدر الحقوق المتأصلة في تاريخ الأمة وتقاليدها.
ثانياً؛ تسييس القضاء معناه انتقاله من سلطة حيادية إلى طرف انحيازي؛ فالقضاة المحافظون لا يخفون لونهم السياسي، ولا مواقفهم الآيديولوجية، وبالتالي فإن تعيين ترمب لثلاثة منهم، وقبله تعيين آخرين يميلون للديمقراطيين، حوَّل المحكمة الدستورية إلى سلاح يُستخدم في المعارك السياسية؛ فقرار المحكمة الدستورية في عام 1973 كان في جوهره بمثابة إصدار تشريع جديد، هو في جوهره من صلاحية رجال الكونغرس الأميركي؛ وبهذا أصبح القضاء يلعب دورين مهمين؛ التشريع، والتغليب. يقول رئيس المحكمة الدستورية البريطانية جون سمبتون في كتابه «محاكمات الدولة... القانون وانزواء السياسة»، إن توسع إمبراطورية القانون أحد أهم سمات عصرنا، فالمحاكم الآن توسعت صلاحياتها لتشمل قانون الأحوال الشخصية، والسياسة الخارجية، وحقوق الإنسان، وغيرها؛ فحكم القانون أصبح يعني أن لكل أزمة حلاً قانونياً، وهذا جعل المحاكم تصدر أحكاماً قانونية لا وجود لها في الدستور أو الحقوق؛ وبهذا تراجع الساسة، وتقدم القضاة، وفي النهاية تحول القضاة لسياسيين ومشرعين، ومعهم سقط مفهوم فصل السلطات. وبتحول القضاة إلى ساسة غلَّبوا طرفاً على حساب طرف، بما يتناسب مع مصالحهم أو مواقفهم الآيديولوجية أو الاعتقادية؛ هكذا ظهر مبدأ التغليب في القضاء، ومعه بدأ يفقد هيبة الإجلال وعدالة الحسم.
ثالثاً؛ التبعات المجتمعية خطيرة، لأن الديمقراطية تستوجب الفصل بين السلطات، والقضاء هو المرجع الأخير، فإذا ما سقط، فإن آلية حسم الخلاف تصبح معدومة، وهذا يؤدي إلى زوال حكم القانون بمفهومه الديمقراطي؛ فطبيعة الدولة الديمقراطية وتركيبتها تحتم على القضاء أن يلعب دوراً أكبر في حياة الناس، لكن تدخله في قضايا حساسة تمس معتقدات ومبادئ يحملها الأفراد، وحسمه لها دونما تفويض ديمقراطي، جعله محل شك، وحمل الناس على الاحتجاج، واتهام القضاة بالانحياز؛ وطالما أن السلطة (البرلمان) تتخلى عن دورها في هذا المضمار، فإن المجتمع هو الذي سيتضرر، لأن مسألة الحقوق الشخصية ليست بالسهلة، بل لا بد من دراستها بجدية، في المؤسسات، وفي البرلمان، لكي تخرج متوازنة تخدم الجميع، وتوفر الأمان الاجتماعي.
توجد الآن في أميركا والغرب جماهير محافظة ترفض التوسع بالحريات الشخصية، ومقابلها جماهير تريد استيلاد حقوق جديدة، وتكريسها دستورياً، وتعليمها في المدارس مثل الإجهاض والمثلية، بتبرير أنها تمكن الفرد من ممارسة حريته على جسده؛ هذا يرفضه المحافظون ويصرون أن أصحابه يخلقون حقوقاً لا دستورية، ويزرعوها في عقول الأجيال الناشئة، وهي لا أصل لها في الدين ولا في التاريخ ولا التقاليد؛ وهكذا فإن المستولدين لحقوق، والمعارضين لها، سينزلون للساحات، ومن ينتصر في الانتخابات أو في المحاكم سيفرض رأيه؛ هكذا تموت الديمقراطية التي هي أساساً آلية لفض الاشتباك، ووسيلة للاجتماع حول حلول وسطية تراعي مصالح الجميع!
إن قرار المحكمة الدستورية الأميركية يستدعي منا كعرب أن نعتبره إنذاراً مبكراً لما قد يصيب مجتمعاتنا التي بدأت بعض المنظمات المدنية فيه، والمدعومة من الغرب، بالمطالبة بالتوسع بهذه الحقوق الشخصية التي ليس لها تاريخ ولا تقاليد متأصلة، ولا مصدر سماوي، وعلينا أن نتعظ بغيرنا، لأن العاقل من اتعظ بغيره.