صمويل إيرل
TT

بريطانيا... «تغرق في البحر وهي تقهقه»

لا يوجد مكان آمن بالنسبة إلى بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا المحاصر والمنغمس في الفضائح. ربما يصبح هذا الأمر واضحاً بشكل لا يمكن الهروب منه يوم الخميس؛ حيث من المقرر أن تقدم الانتخابات المحلية، التي تشهدها منطقة محسومة تقليدياً لحزب المحافظين في جنوب ديفون، والتي يسيطر عليها الحزب بشكل شبه متواصل منذ عام 1885، وأيضاً انتخابات محلية أخرى على مقعد ظهر بعد الثورة الصناعية في شمال إنجلترا، استحوذ عليه أعضاء حزب المحافظين من حزب العمال للمرة الأولى منذ 90 عاماً في 2019، تقييماً حاسماً لشعبية جونسون المتداعية. في ظل الوضع الراهن من المتوقع أن يخسر المحافظون في المنطقتين.
الجدير بالذكر أن قدرة جونسون على اجتذاب أولئك الناس المتباينين وتلك المناطق المختلفة، التي يكثر فيها مزارعون موسرون ومصنّعون مهملون مهمشون، هم أهل منطقة شاير في الجنوب والمناطق الحيوية القديمة للعمال في الشمال، هي ما منحته مكانته على قمة حزب المحافظين، لكن حالياً ومع اقتراب بريطانيا من حافة ركود اقتصادي، يبدو أن الدوائر الانتخابية التي كانت موحّدة وملتفة في السابق حول رئيس الوزراء سوف ترفضه وتلفظه. فيما يتعلق بجونسون، فقد اهتُرئت سلطته بفعل تصويت على سحب الثقة منه مؤخراً، لذا سوف تتسبب هزيمة مضاعفة في جعل فترة حكمه معلّقة بخيط رفيع.
مع ذلك، تعدّ مشكلات المحافظين أكبر كثيراً من رئيس الوزراء، فبعد 12 عاماً في سدّة الحكم، تحت قيادة 3 حكام مختلفين، هيأ المحافظون بشكل جمعي الأجواء ومهدوا الطريق لمعاناة بريطانيا. ورقة الموازنة رهيبة؛ حيث لم تحدث أي زيادة في الأجور بشكل فعلي وحقيقي منذ عام 2010. وأفرغ التقشف جوهر المجتمعات المحلية، وتعمق عدم المساواة بين المناطق والأقاليم. كذلك زاد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي تم تأجيله لفترة طويلة وواصل المحافظون طريق تنفيذه بلا خطة واضحة، الأمور سوءاً.
نظراً لكل هذه الإخفاقات، يبدو أن المحافظين سوف يدفعون الثمن أخيراً، فبعد 4 انتصارات متتالية في الانتخابات، كان يزداد في كل منها نصيبهم من الأصوات، جاء الحزب في مرتبة متأخرة في استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها طوال العام. ومن المرجح أن تكون انتخابات يوم الخميس مؤشراً آخر لخيبة الأمل الشعبية المتنامية، وربما يؤثر سلباً على حظوظ الحزب خلال الانتخابات المقبلة المقرر عقدها في عام 2025. إن المحافظين في ورطة، سواء أكانوا تحت قيادة جونسون أم لا، نظراً لعجزهم عن معالجة مشكلات البلاد العميقة المتجذرة وافتقارهم إلى الاتجاه.
ومع ارتفاع أسعار السلع الغذائية ومصادر الطاقة إلى مستويات قياسية، يمكن للمحافظين الإشارة إلى أسباب خارج نطاق سيطرتهم مثل الانتشار العالمي للوباء، وحالات الإغلاق في الصين، والحرب الروسية في أوكرانيا، لكنهم لا يستطيعون تفسير سبب مرور بريطانيا بهذه المعاناة تحديداً في ظل أزمة عالمية. بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لن يشهد الاقتصاد البريطاني أي نمو خلال العام المقبل، وهو توقع قاتم لا يشاركه إياه من بين الدول الكبرى سوى الاقتصاد الروسي.
ينبغي أن يثير ذلك قلق المحافظين، أصحاب السجل الاقتصادي البائس، الواضح في كل مكان، من ارتفاع مستويات الفقر، إلى تراجع الإنفاق المزمن على الخدمات الحكومية، فقد انخفضت أجور العاملين في مجال الرعاية الصحية داخل هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، التي يحب المحافظون إعلان ولائهم وإخلاصهم لها، بشكل فعلي، وهناك نحو 110 آلاف وظيفة شاغرة بها. مع تزايد طول قائمة الانتظار لتلقي الرعاية الطبية، يزداد عدد البريطانيين، الذين يتوجهون لتلقي رعاية صحية على نفقتهم الخاصة؛ حيث يقترب متوسط المبالغ المالية التي تنفقها الأسر على الرعاية الصحية، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، من مستوياته في أميركا. يعدّ ذلك تطوراً مؤلماً بوجه خاص بالنسبة إلى بلد يفتخر بما يتم تقديمه من رعاية صحية به.
بالنسبة إلى المحافظين، تقدم فوضى رئاسة وزراء جونسون حجة مرضية، فبعد استغلال جموح وتمرد جونسون في البداية، يزعم المحافظون حالياً أنه يعرقل قدرتهم على معالجة المشكلات الخطيرة المهمة التي تواجهها البلاد. كثيراً ما يشكون من رغبتهم في «العودة إلى الحكم»، لكن الحقيقة هي أن المحافظين قد تخلوا عن الحكم وإدارة البلاد منذ فترة طويلة، وهي حقيقة تفسر الفوضى التي تواجهها بريطانيا حالياً وما حظي به جونسون من قبول في البداية. صحيح أنه في الوقت الذي كان يبدو فيه طموح جونسون الجامح لأن يصبح زعيم الحزب واضحاً مثل الشمس، اعتمد صعوده لاحقاً إلى قمة هرم السلطة في البلاد على رغبة زملائه المحافظين الجامحة أيضاً. بحلول عام 2019، وبعد نحو عقد من البقاء في السلطة، وفي ظل عدم وجود كثير من الأمور الإيجابية التي يمكن التغني بها، كانت هناك حاجة ملحة للتخطيط لمسار قومي جديد. وفي ظل وضع بائس ونفاد الأفكار، لجأ المحافظون إلى بائع معروف متجول يروّج للتخيلات والأوهام التي تثير مشاعر جيدة في النفس. وقدّم جونسون للمحافظين مهرباً من أوروبا والجدية والشك في الذات، لكن ما كان يفتقر إليه فيما يتعلق بتحديد الاتجاه، عوّض عنه بالتفاؤل اللامحدود وحسّ الدعابة لديه؛ حيث يمكن للجمل المضحكة أن تحلّ محلّ السياسة، ويمكن رفع الروح المعنوية بدلاً عن الأجور.
خلال حقبة الستينات، حذر كاتب ساخر إنجليزي يُدعى بيتر كوك من مواجهة بريطانيا لخطر «الغرق في البحر وهي تقهقه»، وهذا الشعور سائد بالفعل في عصرنا هذا. خلال الاثني عشر عاماً الماضية، قوّض المحافظون القواعد والأسس التي تقوم عليها بريطانيا، ونفذوا بشكل مستمر نموذجاً اقتصادياً فاشلاً، ما أدى إلى تسارع الوتيرة التي تنزلق بها البلاد إلى هوّة الفوضى والاضطراب. في أكثر الأوقات، لقد أبهج المحافظون البلاد بطريقتهم الخاصة، ويوم الخميس سوف تعلم بريطانيا على الأقل ما إذا كان مجرى الأمور والأحداث سوف يتحول أخيراً أم لا.
* خدمة «نيويورك تايمز»