مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

زيارة الرئيس الأميركي: المظهر والجوهر

إبعاد الموضوع عن الأمور الشكلية في زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية أمر ضروري، حتى لا نغرق في تحليل أمور هامشية ونغفل عن أمور جوهرية. ولكي تتضح الرؤية في عملية فرز الجد من الهزل في الزيارة، أو التبن من الغلة بالمفهوم الريفي، لا بد من إلمام بالسياق الأوسع الذي تتحرك فيه الزيارة ودوافعها المحلية، فكل شؤون السياسة هي في نهاية المطاف محلية في النظم الديمقراطية. ثم بعد ذلك نتطرق إلى أجندة الدول الإقليمية ومدى قربها أو بعدها عن الرؤية الأميركية، وتبعات ذلك على الدول العربية.
بداية، النظارة التي يرتديها الرئيس الأميركي هي نظارة النظام العالمي الذي يتشكل بمنافسة صينية جادة لدور الولايات المتحدة العالمي، والتحالف الصيني الروسي وعلاقته بالحرب الأوكرانية التي أثرت بشكل واضح على النظام العالمي المالي والأسواق، وكذلك على أمن الطاقة، خصوصاً في أوروبا. هذا هو السياق الأوسع. ومن هنا يكون سؤال أمن الطاقة العالمي على رأس أولويات أجندة الرئيس الأميركي.
ثانياً لضبط الوضع تجاه روسيا، يتحرك الرئيس الأميركي من منظوره الذي يقسم العالم إلى ديمقراطيات من ناحية، وديكتاتوريات من ناحية أخرى، ومؤتمر تحالف الديمقراطيات الذي عقده بايدن في سبتمبر (أيلول) 2021 كان مؤشراً واضحاً على هذا التوجه، وبناء عليه تكون مسألة الإصلاح داخل منظومة الشرق الأوسط أمراً مهماً رغم أنه لن يكون أولوية كبرى. ولكنه سلاح ذو حدين؛ حده الأول الإصلاح كورقة ضغط، وحده الثاني هو الإصلاح من أجل الإصلاح في إطار سياسات الأسواق الحرة والانخراط في منظومة تحالف الديمقراطيات بشكل يعد مقبولاً.
جو بايدن أيضاً قادم من اجتماعات الناتو ولقائه القادة في 29 يونيو (حزيران) 2022، التي تم فيها الاتفاق الثلاثي بين كل من السويد وفنلندا وتركيا، لينهي الفيتو التركي على دخول هذه الدول للحلف، هذا الاتفاق الذي يحول بحر البلطيق إلى بحيرة تابعة للناتو تقريباً. غير أن دور تركيا والأوراق التي لعبتها في هذه الاجتماعات، ولقاء بايدن وإردوغان تحتاج إلى مقال مستقل. ولكن الفكرة هي أن الأمن أصبح اليوم بوابة التحالفات، وبوابة الأمن هي التي تحكم رؤية الرئيس الأميركي في إدخال إسرائيل في منظومة أمن إقليمي جديد قد يغير خريطة المنطقة. ومن هنا يكون الحديث عن أمن إسرائيل كأولوية أميركية لم يتغير في جوهره، ولكن في طريقة ضمان هذا الأمن. وإذا كان إدماج إسرائيل في إطار نظام أمن إقليمي جديد، فمعنى ذلك أن بوابة الأمن لا بوابة السلام هي أساس رؤية بايدن، وتكون زيارته لرام الله مجرد غطاء سياسي لما يجري وليس جوهره. إذن يجب ألا نتوقع أن يكون السلام العربي الإسرائيلي من أولويات الرئيس الأميركي، فهو من ضمن زخارف الزيارة ولا دخل له بجوهرها إطلاقاً، إلا إذا قدم الأميركيون مساعدة للسلطة الفلسطينية كثمن للسكوت حتى تمر صفقة البوابة الأمنية الرامية إلى إدماج إسرائيل في المنطقة.
أمن الطاقة وأمن إسرائيل هما جوهر الزيارة.
أما الأسئلة الأخرى المتمثلة في إيران كتهديد إقليمي، فكما ذكرت في مقال سابق هناك إيرانان: إيران النووية وهي شأن إسرائيلي أميركي وتتعامل معه أميركا بطريقتها من خلال التفاوض المباشر. وإيران التقليدية التي تتوسع في المجال العربي، وهي شأن عربي قد تساعد أميركا في ضبطه من خلال التحالف الإقليمي الجديد، ولكنه ملف ليس على أولويات الرئيس الأميركي، بل هو أولوية عربية أو لنقل خليجية محضة. أما بقية الدول المدعوة فليس لها دور محدد في المسألة الإيرانية باستثناء العراق، التي تبقى فيها إيران مشكلة لا تستطيع لها حلاً، نتيجة لتركيبتها الداخلية المعقدة، حيث أصبحت إيران جزءاً أساسياً في النسيج العراقي لا يمكن فصله إلا بتقطيع السجادة كلها.
بايدن أيضاً يزور المنطقة وعينه على الداخل الأميركي والانتخابات النصفية ومستقبل الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي، لذلك لا بد لهذه الزيارة أن تكون لها مكاسب تقنع أنصار السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز بالخروج للتصويت، وتلبي رغبات اللوبي الإسرائيلي أيضاً ذي الدور العال في دعم حملات المرشحين في الولايات المختلفة. هذا المحرك الداخلي أساسي في تفكير بايدن وإدارته.
هناك قضايا جانبية قد يطرحها بايدن في إطار آخر مثل تحويل مضيق تيران إلى ممر عالمي، أو سفر الحجاج الفلسطينيين إلى الأماكن المقدسة مباشرة، وهي قضايا قد تكون في إطار تغليف الصفقات لا جوهرها.
لا شك أن الزيارة الثانية لرئيس الولايات المتحدة في الفترات الأخيرة، دونالد ترمب من قبل والآن جو بايدن، تدشن الدور القيادي الإقليمي للمملكة العربية السعودية في المنطقة.
إذن حتى لا نغرق الناس في أمور غير مفيدة، فإن أي حديث عن السلام العربي الإسرائيلي بمعنى حل الدولتين أو غيره، هو أمر يبقى في إطار الشكل الذي يجعل الزيارة مقبولة شعبياً ولكنه لن يكون حديثاً جاداً. كما أن الملف الإيراني سيبقى في النهاية ملفاً أميركياً.
زيارة بايدن، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الانتقالي في مكالمته الأخيرة مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، «ستكون لها تبعات إقليمية مهمة»، ولكن حساب المكسب والخسارة في تبعات تلك يعتمد على قدرة الدول الإقليمية في لعب أوراقها بحرفية تعظم من مصالحها والتقليل من مصادر التهديد التي تتعرض لها. ما زال هناك وقت لحديث جاد لترتيب الأولويات العربية في هذا اللقاء، وهذا يتطلب حديثاً جاداً حول هذه الزيارة يرشد الحوار. وفي هذا المقام لا يفوتني الإشادة بمقالين نشرا في هذه الصحيفة؛ الأول للسفير رمزي رمزي، الذي عمل نائباً لسفير مصر لدى الولايات المتحدة لفترة تمنحه الفهم الجاد، وكذلك خبرته الأممية، والثاني للدكتور محمد الرميحي، وهو أكاديمي مشهود له بالجدة والصراحة والصرامة، مقالات تأخذ الحوار حول العلاقات الأميركية العربية إلى حديث جاد يليق بحجم التحديات. وأتمنى أن تمثل هذه المقالات معياراً للنقاش حول هذه العلاقات شديدة التعقيد. فرز القش من الغلة أو الحبوب، هو بداية الحديث الجاد عن زيارة قد تكون فارقة في مستقبل المنطقة هو أمر ضروري، يجب الاستعانة فيه بأهل الخبرات الجادة والعلم، حتى نتجنب الندم حين تقع الفأس في الرأس ولا ينفع فيها التحليل بالتمني.
وأخيراً ملحوظة شخصية؛ أتيحت لي فرصة التعرف على السيناتور بايدن في أكثر من جلسة تثقيفية (briefing) كنت فيها والزميل الدكتور جريجوري جوز الأستاذ بجامعة تكساس الآن. وفي خلال جلسة في مكتبة لثلاثتنا تجاوزت الساعتين كان الرجل متحدثاً أكثر من كونه مستمعاً. متمسكاً بآرائه يبدو كخطيب لا كشخص يريد معرفة التفاصيل، يبحث عن مقولات تؤيد رأيه لا أراء تكشف له منظوراً جديداً. ومن هنا أقول إن من يريد أن يغير رأي الرجل في جلسة أو جلستين، فقط، أقول: حظاً موفقاً.