د. ياسر عبد العزيز
TT

من يوفالدي إلى المنصورة هل ننشر المشاهد المُروعة؟

يمكن القول إن مهمة الصحافيين الأساسية ما زالت تتعلق بقدرتهم على نقل العالم وشرحه، لجمهور يعرفونه سلفاً، ويقدرون أولوياته على نحو مُنصف. وهم حين يفعلون ذلك عليهم أن يحموا الأطراف المنخرطة في تغطياتهم وفق معايير مهنية وأخلاقية مُلزمة.
ولكن من الضروري أيضاً أن تُضاف إلى تلك المهمة ما يتعلق بتأطير الأداء العمومي، وعرضه، ونقده، في شتى المجالات، وهو الأمر الذي سيحدث من خلال إسباغ القدرة على التغطيات الصحافية لتكون فعالة في فضح الفساد والتجاوزات والأخطار المجتمعية، بما يُحسن إدراك الناس والسلطات لأهميتها، ويستنفر الطاقات للتعامل الإيجابي معها، ما دام ذلك يجري من دون غرض خاص أو انحيازات مشبوهة.
رغم ذلك، فإن بعض الآراء التي تستهدف منع نشر صور أو فيديوهات معيّنة بداعي أنها تنطوي على إيذاء شديد للمشاعر، وانتهاك للكرامة الإنسانية، ما زالت تحظى باعتبار في المجتمعين المهني والأكاديمي.
وفي مطلع الشهر الجاري، قال ديفيد بوردمان، عميد كلية الصحافة في جامعة تمبل الأميركية، تعليقاً على التغطيات الإعلامية لمذبحة يوفالدي، التي وقعت في إحدى مدارس ولاية تكساس أخيراً، مُخلفة 19 ضحية من الأطفال: «لقد حان الوقت، بعد إذن أحد الناجين من الوالدين، لإظهار كيف يبدو طفل يبلغ من العمر 7 سنوات وقد سُفكت دماؤه».
منذ وقعت مذبحة مدرسة ساندي هوك الابتدائية في ولاية كونيكتيكت الأميركية، قبل عقد من الزمان، مُخلفة 27 ضحية، ظلت أحداث إطلاق النار عشوائياً في المدارس تحدث بانتظام في الولايات المتحدة، وصولاً إلى مذبحة يوفالدي الأخيرة. ولقد جرى الربط بطبيعة الحال بين تلك الجرائم التي تقع بوتيرة منتظمة من جانب، وبين الجدل السياسي الدائر في البلاد بخصوص الحق في حمل الأسلحة من جانب آخر، حيث برزت تلك الحوادث المفجعة ومشاهدها المروعة كإحدى أدوات الجدال.
يقول بوردمان، محاولاً تسويغ تغيّر موقفه السابق من ضرورة منع نشر الصور والمشاهد المروّعة لضحايا حوادث العنف، إن «وصفنا النصّي لهذه الجرائم البشعة لا يحرّك المواطنين، ولا يستنفر الآلة السياسية لتعمل بالشكل المناسب في مواجهة هذا الخطر المتصاعد».
والشاهد أن عدداً من الصور والمشاهد المروّعة عبر التاريخ أثبتت قدرة لافتة على إحداث تغيير إيجابي في السياسات والاستجابات الأممية والمجتمعية لبعض الجرائم والأخطار الكبيرة. ولعلنا نتذكر في هذا الصدد بعض الصور المؤثرة؛ مثل مشاهد سجن «أبو غريب»، أو «طفلة النابالم» ضحية القصف الأميركي في حرب فيتنام، أو مشهد الطفل السوري إيلان الغارق على الساحل التركي، أو محمد الدرّة في فلسطين، أو صور الأطفال ضحايا الجوع في الصومال التي قاد نشرها إلى تدخل الأمم المتحدة في هذا البلد مطلع تسعينات القرن الفائت.
وفي الأسبوع الماضي، ثار جدل في مصر والأردن على خلفية مقتل شابتين جامعيتين في كلا البلدين؛ إحداهما ماتت مذبوحة على يدي زميل لها أمام أبواب جامعة المنصورة في الدلتا، بينما قُتلت الثانية في إحدى جامعات عمّان على يدي شاب أمطرها بست رصاصات من سلاح ناري. وعندما نُشرت مقاطع فيديو لذبح الفتاة المصرية المغدورة، تضاربت الآراء بين من يؤيد النشر بوصفه ضرورة لإحاطة المجتمع والسلطات بما جرى، واتخاذ ما يلزم نحو المحاسبة والردع ومنع تكرر هذا الاعتداء، وبين من يعارض ذلك احتراماً لكرامة الضحية، وحفاظاً على مشاعر ذويها، وحماية للجمهور من أثر إذاعة المناظر المؤذية. الواقع أن منع عرض الصور والفيديوهات تماماً في مثل هذه الحالات ليس حلاً سليماً، كما أن نشرها من دون إدخال تعديلات ضرورية عليها يُعد عملاً خاطئاً أيضاً.
وربما سيكون القرار الصائب الذي يتخذه المحرّرون في غرف الأخبار، والناشطون على وسائط «التواصل الاجتماعي»، والقائمون على عمل الهيئات الضابطة، والمعنيون بآليات التنظيم الذاتي لعمل الصحافة، نتاجاً لموازنة مُنصفة ودقيقة بين عدد من الاعتبارات. فمن جهة، ينبغي أن نحمي حق الجمهور في المعرفة، وحق الوسيلة الإعلامية في الحفاظ على قدرتها التنافسية، وحق أطر المساءلة العمومية والنيابية في الضغط على السلطات لإصلاح العوار الناجم عن الانتهاكات المؤذية، فضلاً عن الوفاء بمهمة التوثيق. ومن جهة ثانية، ينبغي أن نحمي حق الضحية في صيانة خصوصيتها وكرامتها الإنسانية، وحق ذويها في حماية مشاعرهم، وحق الجمهور في تجنب المشاهد المؤذية. ونتيجة لهذه الموازنة الدقيقة والمُنصفة، سيمكن إجراء تعديلات مناسبة على الصور والفيديوهات بحيث تضمن الوفاء بتلك الحقوق؛ وهو أمر يعزز قدرة الصحافة على القيام بدورها من جانب، ويحد من الأضرار الجانبية المُحتملة لهذا الدور، بأكبر صورة ممكنة، من جانب آخر.