د. شادي صالح
TT

التحول الصحي في السعودية

تطرق الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، في مقابلة شاملة أجريت معه العام المنصرم، للحديث عن «رؤية 2030» للنهوض بالركائز المجتمعية والاقتصادية للمملكة، إلى المقاربة الاستراتيجية لخطة التحول الصحي. منذ أيام قليلة، وُضعت الرؤية قيد التنفيذ العملي والقانوني، مع صدور قرار مجلس الوزراء السعودي بالموافقة على تأسيس شركة الصحة القابضة، وتنظيم مركز التأمين الصحي الوطني.
المقاربة المبسطة جداً لهذا القرار تعني أن جميع المؤسسات الصحية المعنية بتقديم الخدمات الصحية والتابعة لوزارة الصحة، سوف تحول إلى شركة الصحة القابضة، لتكون هذه الأخيرة المسؤولة عن تقديم الخدمة الصحية عبر 20 تجمعاً صحياً (مليون إنسان تقريباً في كل تجمع صحي لتغطي كامل المملكة). بالإضافة إلى ذلك، سوف يلعب مركز التأمين الصحي الوطني الدور الذي كان منوطاً بوزارة الصحة، لتمويل معظم الخدمات الصحية. بخلاصة: سوف يتحول دور وزارة الصحة إلى التنظيم والمراقبة لهذا القطاع الحيوي. وهذا يسمح -إذا نُفذ بطريقة سليمة وكفؤة- بتحويل القطاع الصحي من عبء اقتصادي واجتماعي إلى فرصة لتنمية المجتمع، وتحسين الحياة لجميع المواطنين والمقيمين، بالإضافة إلى خلق فرص اقتصادية وتنموية.
وحتى لا يبقى ما ذُكر أعلاه مجرد عناوين فضفاضة، سوف يقدم هذا المقال تصوراً موجزاً عن فوائد مرجوة من هذا التحول، لتحقيق تنمية صحية ومجتمعية واقتصادية.
إن استحداث تجمعات صحية تؤمِّن تغطية جغرافية كافية، وتحتوي على جميع أنواع الخدمات الصحية منها: أولية وثانوية وتخصصية، قادرة على تحسين مخرجات الصحة في المملكة؛ خصوصاً إذا شملت دعم دور الوقاية والصحة العامة، مثل حملات وقائية مع حوافز للعاملين والمنشآت والأفراد والمجتمعات، سوف يؤدي إلى تحسين صحة الإنسان وتقليل الأمراض؛ خصوصاً الأمراض المزمنة، ناهيك عن خفض الفاتورة الصحية الإجمالية.
وتتيح هذه التجمعات الصحية أن تتحول المجتمعات المحلية إلى لعب دور فاعل في المحافظة والمساهمة في مجتمع صحي، كمثل إقامة حملات توعية صحية، وإيجاد مقاربات لإدخال المجتمع والمريض في عملية تطوير العمل الصحي. عند ذلك، تصبح الصحة مسؤولية مجتمعية بعدما كانت تُعتبر وينظر إليها كمسؤولية حكومية بحتة. ويمكن أن نتخيل التنافس (الإيجابي) ما بين التجمعات الصحية في مخرجات صحة المجتمعات، التي تقوم بخدمتها وتوفير الرعاية الصحية لها.
لقد أثبتت تجارب دول عديدة (من ضمنها المملكة) أن جمع الأدوار التي تشمل التمويل وتقديم الخدمات والتنظيم والمراقبة، يشكل عبئاً «كبيراً» يصعب معه القيام بأي من هذه الأدوار بطريقة جيدة. وعليه، فإن التحول الصحي كجزء من «رؤية 2030» يشكل فرصة لتركيز الجهود على الدور الفعلي لوزارة الصحة، كمنظم ومراقب لمعظم القطاع الصحي. هذا التفرغ يتيح للوزارة استحداث مقاربات متطورة وفعالة لهذا الدور، والتركيز على تقدم القطاع الصحي من دون الحاجة إلى جمع الأدوار، مما استتبعه من أعباء بيروقراطية وتنظيمية ومالية لا حاجة لها.
إن معظم دول العالم، الغنية منها والفقيرة، تعاني من عدم القدرة على استمرارية تمويل قطاعاتها الصحية، مع الزيادات المطردة في الإنفاق بسبب التكاليف المرتفعة. إن التضخم في الفاتورة الصحية سنوياً يكاد يكون ضعف التضخم العام في كثير من البلدان جزئياً بسبب العلاجات الجديدة والمستحدثة وارتفاع معدل الأعمار. أضف إلى ذلك، أن قيام الدولة بلعب دور الممول والمقدم للخدمات الصحية، لا يشجع المبادرات لإيجاد مقاربات كفؤة اقتصادياً (cost- effective/ cost beneficial, etc) لأنه لا يوجد فصل بين الأدوار، أو حافز عند الأول لمساءلة الثاني، أو ضمان تكلفة أفضل مع فاعلية أكبر.
مما ‏لا شك فيه أن هذا التحول الصحي ممكن أن يكون له مردود اقتصادي مهم، في تقليل التكلفة الصحية، مع إمكان رفد الاقتصاد بمداخيل جديدة؛ خصوصاً إذا تم استحداث وتشجيع شراكات حكومية، وخصوصاً (Public- Private Partnership) كمكون في التحول الصحي.
أما وقد تم تقديم الفوائد للتحول الصحي، فيجب إيجاز بضع مقاربات وأسس للتنفيذ بناءً على المثل القديم: «الرؤية بلا خطة هي حلم، أما الرؤية مع خطة فتغيِّر العالم».
1- إبقاء الإنسان أساساً في التحول الصحي؛ إذ يجب أن تظل الأهمية الاقتصادية للتحول في المرتبة الثانية بعد الهدف الأول، وهو صحة المجتمع والإنسان. مع تحول كهذا، من الضروري تذكير المنفذين في مستويات مختلفة بأهمية هذا المبدأ؛ خصوصاً في المملكة العربية السعودية؛ حيث ثقة المواطن والمقيم في الدولة وتقديماتها تعتبر عالية وغالية.
2- إشراك الكادر الصحي في هذا التحول؛ إذ إن مبدأ إدارة التغيير (change management) يتمحور حول أهمية إشراك جميع الفاعلين؛ خصوصاً -في هذه الحالة- العاملين الصحيين في وزارة الصحة والمؤسسات الصحية، في الجوانب المهمة في التحول. وهذا سوف يضمن انتقالاً سلساً إلى المنظومة الجديدة، وضمان القبول (buy-in) للتحول، وهنالك تقنيات وأساليب عديدة وعلمية لإشراك كهذا.
‏3- استحداث مخرجات للتحول ومراقبتها، والتعديل استناداً إليها؛ إذ إن استحداث نظام متكامل للمراقبة والتقييم (Monitoring &Evaluation) للتحول، يسجل مخرجات أداء أساسية (Key Performance Indicators) هو ضرورة قصوى. إن ضخامة القطاع الصحي في المملكة يحتم تصميم هذا النظام بشكل يتيح مرونة في المقاربة والتغيير، بناء على المخرجات، مع حسن جمع المعلومات الأساسية ‏وتشكيل فرق تقييم وتدخل.
4- الربط السليم ما بين المؤسسات الصحية والمختلفة في التقديمات الصحية؛ حيث إن الربط الفعال والكفوء وتقليل التكرار (duplicity) في الخدمات، سوف يشكل عاملاً كبيراً في نجاح هذا الجزء في التحول. إن الخوض في التحديات في الآليات التي تضمن ذلك عرض مطول؛ ولكنْ تفعيل نظام تحويل (Referral) جيد مع استخدام نظم صحية الإلكترونية.
5- تنظيم العلاقات المالية ما بين مركز التأمين وشركة الصحة القابضة، فالمتفق عليه أن الهندسة المالية للصحة (من أين يأتي المكان وكيفية توزيعه ودفعه للعاملين في المؤسسات الصحية) قد تكون العامل الأهم في تحديد شكل القطاع الصحي. وعليه وجب تحديد مقاربة سليمة (ولينة) لهذه الهندسة. مثلاً: إن وضع حافز مالي للتجمعات الصحية بحملات وقاية وتقليل نسبة الإصابة والكشف المبكر لبعض الأمراض، سوف يحول جزءاً من تركيز وعمل هذه الجبهات لهذا العمل. وعليه تتحسن صحة المجتمع وتقل التكلفة. كذلك مع مراقبة الخدمات وتقليل التكرار للخدمة نفسها. والأمثلة كثيرة في أهمية تصميم المقاربات المالية وكيفية توزيع وطريقة الدفع. إن وضع نظم التمويل وتصميمها، والتكلم عن خبرة قد تكون سبب نجاح أو فشل تحول صحي عملاق كهذا.
‏في الخلاصة: إن التحول الصحي إذا نُفذ بما يتناسب مع «رؤية 2030» فإنه يمكن أن يحول السعودية إلى مركز استقطاب وتميز في الخدمات الصحية، مما يساهم في تطوير القطاع وتفعيل دور السعودية كمركز مبادرات صحية رائدة. كما سوف يكون مثلاً عالمياً، تُستقى منه دروس في كيفية تحويل نظام صحي إلى آخر حديث وفعال وكفؤ.

* دكتوراه في تمويل وتنظيم القطاع الصحي، ومدير مؤسس لمعهد الصحة العالمية، الجامعة الأميركية في بيروت.