د. ياسر عبد العزيز
TT

مذيعة... وحجاب وبرقع!

في شهر أغسطس (آب) الماضي، نشرتُ في هذه الزاوية مقالاً تحت عنوان «طالبان تحكم أفغانستان... ماذا عن الإعلام؟»، غداة الانسحاب الأميركي من هذا البلد، واستيلاء الحركة على السلطة. وقد خلص هذا المقال إلى أن «طالبان» تكره الإعلام المنفتح، وتزدري حق النساء في العمل كصحافيات، لكنها مع ذلك ستُظهر قدراً من المرونة في التعامل مع المجال الإعلامي، وعندما ستفرغ من خطة التمكين والاستقرار في الحكم، فإنها لن تتباطأ أبداً في فرض رؤيتها الصارمة على هذا المجال.
لم يكن هذا رجماً بالغيب بطبيعة الحال، وإنما كان تقديراً يستند إلى تاريخ الحركات ذات الإسناد الديني في التعاطي مع قطاع الإعلام عندما تصل إلى السلطة أو تشارك فيها. فمشاركة تلك الحركات في السلطة أو الاستئثار بها لا يفضي عادة سوى إلى احتمالين: أولهما أن تستكمل متطلبات التمكين وتحقق قدراً من النجاح، وهنا فإنها ستسرع إلى محاولة «تسييل العائد»، عبر صبغ المجتمع والدولة بصبغتها، وترسيخ وجودها المعنوي لتأكيد سيادتها المادية. أما ثاني هذين الاحتمالين فهو فشلها أو تعثرها في تحقيق أهدافها ومقابلة تطلعات الناس، وهنا فإنها ستسارع أيضاً إلى محاولة «جبر الفجوة» بين المُتحقق والمأمول، وسيكون هذا عبر تعويض الجمهور المتأزم عن الإخفاقات بتحقيق انتصارات وهمية في ميادين «العقيدة» و«الهوية».
سيكون من السهل جداً إحراز الانتصارات الوهمية في تلك الميادين بطبيعة الحال، لأن الأمر لن يتطلب سوى استدعاء تفسيرات وتأويلات دينية من النسق التراثي السائد، وتحويلها إلى أوامر وفروض قاطعة الثبوت والدلالة. وستكون المرأة هي ميدان هذه المعركة السهلة، بالنظر إلى اعتبارات ثقافية واجتماعية تدّعي وصلاً بالدين، وتجد مساندة اجتماعية واسعة من قطاعات من الجمهور الذي نشأ ضمن واقع ثقافي معطوب وشديد التحيز.
ولذلك، فإن «طالبان» لم تُضع وقتاً للوصول إلى تلك المعركة السهلة؛ فبموازاة التقارير عن تعثرات لافتة في مسارات الأداء العمومي، افتعلت الحركة معركتها الإعلامية الأخيرة، حين أصدرت أوامرها لقطاع الإعلام بحظر ظهور المذيعات والمراسلات من دون برقع أو نقاب، رغم أن قراراتها السابقة بالتزام الحجاب كانت فعالة ولم يطلها أي نقض أو معارضة.
عندما صدرت الأوامر الجديدة بحتمية ارتداء المذيعات البرقع أو النقاب، في وقت سابق من الشهر الجاري، أبدت بعض المذيعات معارضة للقرار، كما أن عدداً من المذيعين ظهروا على الشاشات الوطنية مرتدين الكمامات في محاولة للتضامن مع زميلاتهن، لكنّ تلك المعارضة النادرة ما لبثت أن انتهت إلى التسليم بالقرار والامتثال الكامل له، عندما لوحت الحركة بفرض عقوبات على المؤسسات الإعلامية في حال عدم تنفيذ القرار.
ورغم أن «طالبان» تهيمن بصورة كبيرة على المجال الإعلامي الأفغاني، بحيث تمنع التعرض لأيٍّ من قرارات الحركة أو سياساتها بالنقد أو التفنيد، فإن ذلك لم يكن كافياً لها. إذ سعت أيضاً إلى فرض مزيد من القيود على الإعلاميات بحملهن على ضرورة ارتداء البرقع أو النقاب، من خلال أمر صادر عن «وزارة منع الرذيلة ونشر الفضيلة»، وليس أي من الهيئات التي يتصل عملها بتنظيم قطاع الإعلام.
لقد ظل ارتداء المذيعات الحجاب أو النقاب قضية إشكالية ومثيرة للجدل في أدبيات الإعلام في الشرق والغرب. وفي هذا الصدد هيمنت حجة غربية مفادها أن كلا الرداءين إنما يمثل «مقاومة شخصية لضغوط الاندماج والانفتاح، ويفسد على الوسيلة الإعلامية جهودها لإظهار الحياد والموضوعية في القضايا التي يختلط فيها الديني بالسياسي».
وفي المقابل، برزت حجة وجدت رواجاً نسبياً في الشرق، مستندةً إلى أن هذين الرداءين إنما يمثلان «ترسيخاً للهوية، والتزاماً عقائدياً، وحرية في التعبير والقرار، لا تفسد بالضرورة الالتزام بالمبادئ المهنية والمعايير التحريرية».
وإضافةً إلى ذلك، نشأ الخلاف حول ما إذا كان منع المذيعة من ارتداء «شارة دينية» ذات دلالات سياسية، في بعض الأحيان، يمثل اعتداء على حريتها، أم يشير إلى رغبة في التنصل من الانحياز إلى تيار أو فكرة محل نزاع أو تضارب بين قوى حيوية في المجتمعات المختلفة.
من جانبي، لا أرى أن الزي الذي ترتديه المذيعة في أثناء ظهورها على الشاشة يمكن أن يتحدد على قاعدة ثابتة تصلح للمجتمعات كافة؛ إذ يجب ألا نتوقع أن ما ترتضيه الثقافة السويدية في هذا الصدد مشابه تماماً لما تقبله الثقافة السائدة في بلد مثل السودان. لكن مع ذلك، يبقى إلزام المذيعات بتغطية وجوههن في أثناء البث عملاً غير منطقي أو مقبول في الأحوال جميعها، خصوصاً أن السند العقيدي المفترض لهذا الإلزام يبدو محل اختلاف بين معظم المسلمين أنفسهم.