أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

مستجدات المشهد السوري!

يصح القول إن المشهد السوري، الذي بات مرتهناً بشدة للعوامل الخارجية، هو الأكثر عرضة للتأثر بما يطول العالم من مستجدات ومتغيرات، ربطاً بانعكاس تلك المتغيرات على مواقع الأطراف الفاعلة فيه وأدوارها.
أولاً، ما يخلفه انشغال موسكو في الحرب على أوكرانيا من تأثير في دورها ووزنها في سوريا، خصوصاً بعد تعثرها وعدم نجاحها في تحقيق انتصار سريع وغير مكلف هناك، إن لجهة اهتزاز الثقة بها كحليف كان يعتبر كلي القدرة بين قطاع واسع من السوريين، وفي أوساط السلطة الحاكمة، وإن لجهة انحسار قدرتها على المناورة والتقرير في حقل تنافسها مع الجهات المتدخلة في الصراع السوري، كما تراجع إمكاناتها لمد النظام بما يحتاج إليه من دعم إسعافي لتخفيف حدة أزمته الاقتصادية والاجتماعية، والأهم ما يثار عن اضطرارها لإعادة نشر قواتها في سوريا، وسحب بعض قطعاتها العسكرية من مواقع كانت تعد استراتيجية، في ريف دمشق ودير الزور ودرعا والسويداء، ربما للاستعانة بها، وبما راكمه جنودها وضباطها من خبرات ميدانية، في حربها على أوكرانيا.
ثانياً، الفرصة التي باتت متاحة أمام إيران وميليشياتها لملء الفراغ الذي يتركه إعادة الانتشار الروسي، فضلاً عما قد يصيب معادلة تنازع النفوذ على الاقتصاد السوري بين طهران وموسكو من تغيير لصالح تقدم الأولى وتراجع وزن الثانية، ما يفسر توقيت زيارة رأس النظام إلى طهران لاستجرار موافقتها على خط ائتماني جديد، أساسه قرض بفائدة ميسرة لسد العجز المالي للدولة وقدرتها على توفير الأجور والمواد الأساسية والسلع المعيشية، وسيكون المقابل، بلا شك، منح إيران امتيازات اقتصادية جديدة في سوريا ليس فقط في التجارة والصناعة وتمليك الأراضي، وإنما أيضاً في موارد البلاد وثرواتها الطبيعية، والأسوأ إن تم إحياء الاتفاق النووي، حيث سيوفر رفع العقوبات عن طهران مزيداً من الموارد لتعزيز نفوذها الإقليمي ودورها في سوريا على حساب دور موسكو، التي بدأت تعاني، مالياً واقتصادياً، من وطأة تشديد العقوبات الغربية عليها، هذا من دون أن نغفل انعكاس كل ذلك في تفعيل الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية لشبكة بغيضة يتعاضد فيها، ضباط أمن ورجال أعمال مرتبطون بالنظام السوري مع ميليشيات حزب الله والحرس الثوري لتهريب الآثار وتوسيع تجارة المخدرات (الحشيش وحبوب الكبتاغون).
ثالثاً، انعكاس موقف الحكومات الغربية المتشدد من قيادة الكرملين، بتشدد موازٍ من حليفها نظام دمشق، بما يفضي ربما إلى نهاية مرحلة كان فيها الغرب يسلم لموسكو إدارة الملف السوري، ويكرّس عملياً الاستمرار في عزل النظام وتعزيز العقوبات المتخذة ضده، كما تثبيت الاشتراطات الغربية حول الانفتاح وإعادة الإعمار جنباً إلى جنب مع مقارعة المبادرات السياسية التي راهنت موسكو عليها لترتيب البيت السوري، كاتفاقات سوتشي والآستانة وإفشالها، بدليل ضحالة الاهتمام أو الرهان عموماً على نتائج ذات قيمة يمكن أن يفضي إليها مؤتمر الآستانة المرتقب، كما تصعيد المطالبة الأميركية ليس فقط بأولوية تنفيذ القرارات الأممية وإذعان النظام للتسوية السياسية، بل بضرورة مساءلته ومحاسبته على ما ارتكبه من مجازر وجرائم، وأيضاً التصريح الحاسم لمسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي على هامش مؤتمر بروكسل للدول المانحة لسوريا بأن «الاتحاد ملتزم عدم المساهمة في إعمار سوريا، وعدم رفع العقوبات، وعدم إقامة علاقات دبلوماسية مع النظام السوري، ما لم يتم إنجاز انتقال سياسي حقيقي وشامل وجاد وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر عام 2015».
رابعاً، انعكاس جديد الموقف الغربي من النظام ومن تنامي التغلغل الإيراني في سوريا على مواقف عربية أبدت بعض المرونة في التعاطي مع النظام السوري، ما يؤكد، مرة أخرى، أوهاماً ولنقل عدم جدوى التعويل على فك ارتباط هذا النظام مع طهران، ويمكن أن تدرج في هذا السياق تصريحات ومواقف لغير سياسي ومسؤول عربي، يعبر فيها عن القلق والتحسب من مثالب تعميق التلاحم السوري الإيراني، ومن ضمنها موقف أردني، استهجن ميل قادة النظام والميليشيات الإيرانية، لاعتبار مبادرات التطبيع مع دمشق بوادر ضعف أو استسلام لواقع الحال المفروض في سوريا، كذا! وحذر بشدة من مخاطر اقتراب الحرس الثوري وحزب الله اللبناني من حدود الأردن الشمالية ومحاولتهما استباحتها لتنشيط عمليات تهريب المخدرات، وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية تكرار الاعتداءات على الجيش الأردني واشتباكات عدة مع المهربين، تم خلالها قتل بعضهم، ممن يحسبون على حزب الله اللبناني ومصادرة كميات كبيرة من الحشيش وحبوب الكبتاغون.
خامساً، بدأ يتضح استعداد أميركي للبقاء فترة طويلة في سوريا وتعزيز ذلك بتوفير حاضنة اجتماعية واقتصادية له، بدليل مسارعة واشنطن لتوسيع انتشار قواتها في مناطق جديدة من شرق سوريا، ثم مبادرتها لإعفاء أو استثناء مناطق الإدارة الذاتية الكردية وبعض مناطق سيطرة المعارضة السورية من مفاعيل العقوبات الأميركية، حيث أخرجت من قائمة العقوبات قطاعات الزراعة والاتصالات والبنية التحتية والبناء والنقل، إضافة إلى قطاعات متعلقة بالخدمات الصحية والتعليم والتصنيع والتجارة، وكذلك سمح الاستثناء بشراء المنتجات البترولية المكررة ذات المنشأ السوري وتنشيط الاستثمارات الأجنبية في تلك المناطق.
سادساً، جديد ما يشهده اللاجئون السوريون في تركيا على مشارف انتخاباتها العتيدة، وقد أصبحوا مادة للجدل في حلبة التنافس بين الحكومة والمعارضة، وبينما أظهرت بعض رموز الأخيرة إشارات عدائية حول حقوق اللجوء للسوريين، سارعت حكومة أنقرة لتجديد مطالبتها بدعم غربي لمشروع إقامة منطقة آمنة في القطاع الذي تسيطر عليه لاستيعاب مليون لاجئ سوري، ربطاً بما يثار عن احتمال قيامها بعملية عسكرية جديدة لتوسيع هذا القطاع، يحدوها صمت أميركي وتصعيد كردي ضد المنطقة الآمنة على أن غايتها محاصرة الوجود الكردي، وتغيير التركيبة السكانية للمنطقة ووضع بذور خلافات وصراعات بين اللاجئين والسكان الأصليين.
استدراكاً، وفي ظل ما سبق من مستجدات، يصح القول إنه لا استقرار في الأفق السوري ولا حلول، بل يرجح أن يكتنف المشهد المزيد من الضياع الوطني، والمزيد من التشتت والتمزق الاجتماعي والتردي الإنساني والاقتصادي، والأسوأ، المزيد من الصراعات الدموية المجانية بين أجندات خارجية لتقاسم النفوذ وتحسين المواقع، ربما حتى آخر سوري!