خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

إنما ليس حتى للصبر حدود

لن يجادلك إنسان على وجه الأرض في أن ثورة في الاتصالات اكتسحت الكوكب، وأزالت الحدود، منذ العقد الأخير في القرن الماضي. هذا لأننا نلمسها بأيدينا، ونراها بأعيننا، ونستخدمها كل يوم. أجيال كاملة ولدت فيها، فلا تتخيل العالم من دونها. وأجيال أخرى عاصرت العالم من قبلها، فأحست بالفجوة الشاسعة.
لكن الوضع مختلف في إدراك ثورة أخرى موازية، ثورة سياسية أكبر من أي مثيل لها حتى في قرون الثورات السياسية الكبرى، التاسع عشر والعشرين. أجيال أيضاً ولدت في عصر هذه الثورة فلا تعرف العالم من دونها، وتتعامل مع مفرداتها وكأنها «الطبيعي». وأجيال ولدت قبلها. وتلك في معظمها لا تدرك حجم التغيير. ولو أدركته عدتّه مؤامرة مهندسة. وتعاملت معه على هذا الأساس. فاستنزفت جهدها في الصراع معه بالشعارات القديمة، بدلاً من توجيهه إلى مكان جديد باستخدام القواعد الجديدة.
الثورة السياسية الجديدة أكبر من مجرد ثورة في السلطة. هي ثورة في الأفكار. أشبه شيء بها هو الثورة التي عصفت بالحضارات القديمة لصالح عصر الحضارات الدينية. هي تغير كاسح في النموذج المعرفي، في طريقة رؤية العالم وتفسيره (paradigm)، وليس فقط في السلوك ولا الوسائل، وإن كان ينتج تغيراً في السلوك والوسائل.
من الركائز المهمة في هذه الثورة السياسية الميوعة. لا أستخدم الكلمة هنا بدلالة سلبية. بل لأن هذا النعت يمثل قيمة أساسية فيها، وإن كانت تختبئ تحت سطح نقيضها. بمعنى أن سخونة المناقشات، مع «الترول» (التنمر الإلكتروني)، يوحيان بأن الحدود فاصلة بقوة، وكأن لدينا فريقين يقفان على طرفي نقيض. وليس هذا حقيقياً. ما نطلق عليه «يميناً ويساراً» حالياً ليس في الحقيقة «يميناً ويساراً». هذا تصنيف لم يعد صالحاً ولا معبراً، وهذا سبب أدعى للحيرة وفقدان الاتجاه.
نحتاج إلى طريقة أخرى نفسر بها ما يجري حولنا، كيف نفسر تحالف الإسلام السياسي مع حركات يسارية ذات اهتمامات جندرية، وكيف نفسر تحالف «أخوات إسلاميات» يروجن لقوامة الرجل مع حركات نسوية يعتبرن الذكورة ظاهرة تبث السم؟ كيف نفسر تراخي «البيغ تك» مع الصين وتشددها نحو روسيا؟ بل كيف نفسر سلوك دول إقليمية، لسانها الداخلي متشدد ضد أي مساس بهويتها الوطنية، ولسانها الخارجي مؤيد للجماعات التي تحارب فكرة الدولة الوطنية؟ كيف نجد المعامل المشترك الأبسط؟ كيف نجد النقطة التي يتمحور حولها الخلاف؟
والفرضية التي أطرحها كلمة واحدة: الحدود.
أزمة السياسة المعاصرة فكرة الحدود، وهي فكرة مثّلت أزمة منذ نشأة مفهوم الدولة الوطنية بديلاً للإمبراطوريات. من اللافت هنا أن الدول التي كانت منشأ الفكرة هي أول من تجاوزها بالاستعمار. الذي ظل في صورته الحديثة منتصراً عسكرياً مهزوماً أدبياً. وحتمياً بالنسبة لها في كل الأحوال، لترجمة تفوقها إلى مزيد من الثروة والرفاهية والنفوذ. لافت هذا إذن، لأن الفكرة النظرية تختلف عن الممارسة الواقعية. ولأن بعض الأفكار تصدر إلى الداخل فقط. وبعضها يُدعَم انتشاره في الخارج فقط. وهو درس مستمر معنا إلى اليوم. لا يدركه كثير من «المثقفين»، على بساطته.
نسخة أخرى متشابهة في بعض جوانبها تكمل المسيرة حالياً، بعد أن تحول الاستعمار العسكري إلى كلمة بغيضة، تستدعي وتستفز حركات وطنية. صار البديل هو هزيمة الحدود بالأفكار. وتحويل الدولة الوطنية إلى شيطان يجتمع على عداوته المستفيدون من المشروع التوسعي المعاصر على اختلاف مسمياتهم، ومسالكهم، وأفكارهم. فترى الرأسمالي حليفاً لحزب لعب اليسار في أفكاره الأساسية، الأول يريد المكسب المالي، والثاني يريد تعميم قيمه عالمياً، كما في حالة حزب الديمقراط الأميركي. وترى دولة خرجت من الاتحاد الأوروبي لأنه «ينتهك سيادتها الوطنية» تقدم الدعم الأكبر لتيارات «الحدود تراب» في منطقتنا. وترى تركيا صاحبة القوانين المتشددة في اللغة الوطنية والعلم الوطني تناصر تيارات مقوضة لدولها الوطنية. وترى إيران التي لا تسمح بمظاهرة سلمية ترعى ميليشيات في دول جوار ذات سيادة.
الأزمة الحالية ليست مع الحدود السياسية الجغرافية، بل مع الحدود حتى بمعناها البيولوجي والغريزي والاجتماعي. الفكرة التوسعية الجديدة ترفع شعار افتح من الحدود ما استطعت إليه سبيلاً. حيث الحدود بمعناها الواسع هي المقاوم الغريزي الأول، والملاذ الأخير، ضد تغول سلطة لا طبيعية. الأسرة على سبيل المثال صورة للسلطة الطبيعية الناشئة لحاجة بيولوجية حتى يشتد عود الطفل. لكنها في السياسة المعاصرة ينظر إليها بشكل أكبر كعائق أمام تنشئة الطفل على الأفكار التي يريد له مهندسو العالم أن ينشأ عليها. حتى صار هناك نوع من العداء الكامن لكل ما يتعلق بالأسرة النووية في صورتها التقليدية.
والغريب العجيب أن هذا يتزامن مع فكرة «الخصوصية الثقافية» - النقيضة - داخل المجتمعات الغربية. والتي سُلمَت فيها مجتمعات بأكملها لتكون تحت إدارة تنظيمات، تدعو من جهة إلى إسقاط الحدود الوطنية، وتدعو من جهة أخرى إلى رسم حدودها هي على المجتمع. تتحالف سياسياً مع التيارات التي تدعم الحريات الشخصية إلى الحد الأقصى، وتسقط من جهة حدود الحريات الشخصية البسيطة للفرد داخل المجتمع الذي تسيطر عليه. الصراع حول الحدود صار جوهر الصراع السياسي والفكري المعاصر.