د. ياسر عبد العزيز
TT

حسابات وهمية... وأعذار وهمية!

تقول الحكمة السائرة: «في كل صباح في أفريقيا، يستيقظ الغزال وهو يعلم أن عليه أن يسبق أسرع الأسود عَدواً وإلا هلك، بينما يستيقظ الأسد وهو يدرك أن عليه أن يكون أكثر سرعة من أبطأ غزال، وإلا مات جوعاً، وبغض النظر عما إذا كنتَ أسداً أم غزالاً، فإن أول ما يجب أن تفعله صباحاً أن تبدأ في العَدو».
ستعيد وسائط «التواصل الاجتماعي» صياغة هذه الحكمة بالشكل الذي يعكس دورها وأهميتها المتصاعدة في الأوقات الراهنة، وستكون الصياغة الجديدة على هذا النحو: «بغض النظر عما ستقوله، فإن أفضل ما يمكن أن تفعله في كل صباح... أن تغرد، وتُمطر المتابعين برسائلك عبر الوسائط المتاحة».
تعتقد الباحثة في علوم الاتصال ألكسندرا غوميز، أن كل تقنية اتصالية جديدة تُنشئ صورة جديدة للشهرة والتأثير وصناعة المكانة، ولذلك، فإن وسائط «التواصل الاجتماعي» التي تهيمن على عوالم الاتصال السائدة اليوم، ستطور ديناميكيات جديدة لخلق الشهرة وصنع المكانة الرقمية. وفي هذا الصدد سيتم تصنيف المستخدمين بوصفهم مشاهير صغاراً (مايكرو)، ومشاهير كباراً (ماكرو)، وصولاً إلى المشاهير الأضخم (ميغا). وسيكون المعيار الذي سيُصنَّف هؤلاء المستخدمون على أساسه قابلاً للقياس، من خلال إحصاء أعداد المتابعين والمتفاعلين.
لطالما وُصف الملياردير المثير للجدل إيلون ماسك بأنه «أغنى رجل في العالم»، وهو وصف مُستحَق على الأرجح؛ لأنه صدر عن مؤسسات مُعتبَرة اختارت لنفسها دوراً يتجسد في ترتيب أغنياء العالم وفق معيار حجم ثرواتهم المنظورة.
لكن ماسك -كما يعلم كثيرون- شخصية ديناميكية ومُحبة للظهور وإثارة الجدل، وعلى الأرجح، فإن اعتلاءه قوائم الثروة ليس كل ما يريده أو يسعى إليه؛ فشخصيته الجامحة ستميل إلى الرغبة في اجتراح مكانة لم يسبقه إليها أحد. ولذلك، فإنه سيسعى في كل صباح إلى أن يكون أكثر شهرة وتأثيراً ومكانة من المنافسين، وستكون وسيلته لتحقيق ذلك متجسدة في آلية الاتصال المعاصرة... أي «السوشيال ميديا».
أين تقع مكانة ماسك بنحو 93 مليون متابع على «تويتر»، من باراك أوباما الذي يحظى بأكثر من 131 مليون متابع؟ وكيف يتفوق على مغني «البوب» الشهير جاستن بيبر، أو حتى المُغنية ريهانا؟
يدرك ماسك أن تحقيق رقم معين من المتابعين والمتفاعلين والمعجبين في عالم «السوشيال ميديا»، بوصفه من المشاهير «الميغا»، سينعكس تلقائياً في تحقيق النفوذ والمكانة، ولأنه يفهم ديناميكيات تلك الوسائط ويجيد اللعب بها، فإنه سيعزز ميله إلى تفجير الجدل، والتغريد المتواصل، وتذكير العالم بوجوده، وأهميته المُفترضة، وضرورة التفاعل معه، وتناول سيرته، وسرد أفعاله.
واستناداً إلى ذلك، فلن يكون من المُستغرب أن يستيقظ العالم على تغريدة لإيلون ماسك يقول فيها: «إذا مت في ظروف غامضة، فيكفي أنني سررت بالتعرف إليكم»، أو إعلانه عن «خطة لزرع شرائح إلكترونية في أدمغة البشر، بما يسمح بتوارد الخواطر بين المتصلين»، أو أنه «سيشتري شركة (كوكاكولا) لإعادة وضع مادة الكوكايين المخدرة في منتجاتها»!
وبعدما ملأ ماسك الدنيا وشغل الناس بإعلانه عن صفقة ضخمة لشراء «تويتر»، راصداً نحو 44 مليار دولار أميركي لإنجازها، ها هو يعود للتغريد قائلاً إنه يُعلِّق الصفقة، بداعي التحقق من نسبة الحسابات الوهمية على هذا الوسيط، وما إذا كانت في حدود الـ5 في المائة فقط كما قال مسؤولو «تويتر»، أم أكثر من ذلك.
من جانبي، لا أعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي الذي دعا ماسك لإعلانه تعليق الصفقة، فليس هناك بين المتخصصين من لا يدرك تحول تلك الوسائط جميعها إلى مرتع للحسابات الوهمية، بأكثر حتى مما يعلن القائمون على تشغيلها.
ففي عام 2019، قالت «فيسبوك» -على سبيل المثال- إنها حذفت 5.4 مليار حساب مزيف من منصتها، بحيث أمكننا أن نفهم من ذلك الإعلان أن تلك المنصة التي تمتلك قاعدة مستخدمين شهرية في حدود 2.5 مليار مستخدم آنذاك، كانت تستضيف منبرين مضللين مقابل كل منبر لم يثبت ضلاله، قبل أن تتمكن من حذفهما.
وقبل أربعة شهور، نقلت «دويتشه فيله» عن أحد مسؤولي «تويتر»، قوله إن المنصة ترصد أسبوعياً ما بين 8.5 و10 ملايين «حساب آلي»، أو ما يُعرف أيضاً بـ«البرامج الروبوتية» (BOTS)، رغم حذفها ثلثي الحسابات الخبيثة بشكل تلقائي.
إن الحسابات الوهمية جزء أصيل ومكوِّن جوهري في عالم «السوشيال ميديا»، وإيلون ماسك يعلم هذا جيداً. وهو اليوم يستخدم هذه الحجة لتسويغ موقفه الأخير من صفقة شراء «تويتر»، أو لصناعة جدل عالمي جديد يبقيه على رأس قوائم النفوذ والمكانة.