لم يعد خافيًا وجود طبقة من تجار السياسة والحروب من أهل الأنبار، تعمل بموجب أجندات شخصية وتآمرية على تفكيك العراق، وقد تمكنت هذه الطبقة من الإثراء غير المشروع بطرق النهب العام، الذي ساد أجواء عراق ما بعد 2003، ولم تعد هذه الطبقة بحاجة لدعم مالي خارجي لا يزال يرد إليهم تحت واجهات مختلفة. وقد ساعدت شخصيات من هذه الطبقة في عمليات التمهيد لدخول «الدواعش» إلى العراق وسيطرتهم على مدينة الفلوجة قبل 17 شهرًا، وما أعقب من عمليات سيطرة على محافظة نينوى ومناطق كثيرة من محافظة الأنبار، كان احتلال مدينة الرمادي كبرى مدن المحافظة أحدث محطة فيها.
مدينة الموصل سقطت بـ«مؤامرة وتخاذل»، وسقوط الرمادي كان نتيجة سلسلة من التآمر والخداع والمباغتة الميدانية؛ حيث تم تحقيق قوة صدمة ورعب بسلسلة هجمات انتحارية بمركبات مصفحة على المجمع الحكومي في المدينة ومواقع أخرى كانت تمثل حلقات الدفاع المركزية عن المدينة. والغريب «جدًا» أن يغادر قائد الشرطة المدينة قبل يومين من سقوطها متوجهًا إلى أربيل هو وعدد من شيوخ العشائر وكبار مسؤولي المحافظة الإداريين. فهل كان هذا جزءًا من مؤامرة، أم تخاذلاً، أم استقراءً «مميزًا».. أم ماذا؟
لقد كان لطبقة الانفصاليين من ذيول «الدواعش» دور مميز في عملية سقوط الرمادي. ولم تكن أبعاد المؤامرة خافية عمن يحمل أدنى قدر من ثقافة الاستخبارات ويؤمن بخيوط من نظرية المؤامرة؛ فقد كان المخطط التآمري يستهدف جر الجيش العراقي إلى الموصل، وإطالة خطوط مواصلاته، وإنهاكه بمعارك غير متكافئة، وإضعاف الاحتياط الاستراتيجي المركزي، ثم مهاجمة بغداد من محافظة الأنبار، إلا أن حملة التنبيه إلى هذا الخطر كانت كافية لكشف المؤامرة، فلجأ الانفصاليون إلى تصعيد لغة المطالب بتسليح العشائر، وهي لغة لم تكن إلا غطاء لمشروع يحمل أهدافا أخرى؛ لأن الصراع مع «الدواعش» لا يمكن كسبه من خلال حرب عشائرية إطلاقًا، بل من قبل قوات ضاربة بعيدة عن فرص الاختراق؛ بسبب علاقات القربى مع من يشكلون النسبة الأكبر من مقاتلي «داعش» وهم من أبناء عشائر الأنبار نفسها.
لو حدث سقوط الرمادي قبل عشرة أشهر مثلاً لشكلت تهديدًا خطيرًا للعاصمة بغداد، وكذلك لمحافظة كربلاء، إلا أن هذا التهديد لم يعد واردًا بعد تشكيل قوات ضاربة من عشرات الآلاف من المتطوعين، وتعزيز إجراءات الأمن حول بغداد وجنوبها، وكذلك حول كربلاء، فأصبح سقوط الرمادي ذا بعد مناطقي ضمن المفهوم العملياتي لا أكثر. غير أن هذا لا يقلل من حجم الفشل في الأنبار؛ لأنه كان مفترضًا تعزيز النجاحات وليس العكس، لكن الحروب لم تخلُ من النكسات والانكفاء والكبوات والفشل إلا في حالات التفوق الاستراتيجي، الذي لم تتوافر عناصره حتى الآن؛ بسبب تعثر عمليات التسلح وغيرها من عوامل التعقيد والمعرقلات السياسية.
لقد نجح سياسيو الأنبار وحتى مجلس المحافظة في تحقيق رفضهم دخول قوات «الحشد الشعبي» إلى المحافظة للقتال إلى جانب القوات العسكرية، التي لا تمتلك القدرة على الحسم من دون معاونة قوات ضاربة، فتم تجريد القوات العسكرية من أهم عناصر القوة، فضلاً عن أن قوات الشرطـــــــة المحلية ليست قادرة، بحكم فلسفة عملها، على القيام بأدوار قتالية كبيرة. وبقي السياسيون على موقفهم هذا إلى أن اجتاح «الدواعش» المدينة تمامًــــا؛ حيث تخلى مجلس المحافظة ومعظم السياسيين عن معارضتـــــهم دخول قوات «الحشــــد الشعبي»، لكن بعد أن استــــكمل «الدواعش» احتلال المدينة وفرضوا سيطــــــرتهم على مفاصــــلها.
سقوط الرمادي كان درسًا داميًا، سيترك أثرًا كبيرًا على كل ما يسمى «العملية السياسية»، وإن طرد «الدواعش» لا يمكن أن يتحقق إلا بفصل العمليات العسكرية عن أهواء السياسيين من دون استثناء، وإلا بإنهاء عملية المحاصصة داخل القوات المسلحة، التي عانت معاناة فظيعة جراء تدخل السياسيين والمفسدين والفاشلين، فالحروب يكسبها المضحون الشجعان، وليس التداخل الفج بين السياسة والعسكر.
مع ذلك، سيكون سقوط الرمادي سببًا قويًا لوحدة من يحبون العراق ويتمسكون به، وهم القوة الأقوى والأكبر، وسنشاهد على الأرض متغيرات إيجابية مهمة بعد أسابيع قليلة، وستفرض القوات الضاربة على الأرض وجودها، وسيتراجع الهذيان السياسي، وهذا يتطلب هزيمة ذيول «الدواعش» أولاً، الذين أصبحوا في وضع نفسي قلق للغاية؛ خشية غضب الشعب.
7:52 دقيقه
TT
وماذا بعد سقوط الرمادي؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة