المسيحية المارونية كانت هي تقليديا وتاريخيا روح الهوية الوطنية للبنان، هي التي خطت أمام العالم حدود لبنان المتخيل وشكله المنشود، فأبرزت قيادات تاريخية قوية ومؤثرة وفعالة لا تفرط في مبادئ الهوية اللبنانية المعلنة والمتفق عليها حتى ولو أخذت شكلا متطرفا في بعض الحالات، ولكن لبنان مدين لمارونيته السياسية بإفراز شخصيات قيادية استثنائية مثل بشار الخوري الرئيس المؤسس، وفؤاد شهاب الرئيس الأسطوري وكميل شمعون وبيار الجميل والبطريرك المعوشي الذي لا يزال مضربا في الأمثال لمواقفه الوطنية، وكذلك الأمر بالنسبة للبطريرك نصر الله صفير (الذي لا يزال سبب تركه للمنصب علامة استفهام بلا إجابة مقنعة)، وطبعا هناك الكثير من الأسماء الأخرى أيضا.
أتابع مثلي مثل الكثيرين غيري ما يحصل في الشأن السياسي اللبناني وتدهور القيم وانحدار نوعية الشخصيات التي تمثل المشهد، تذكرت ذلك بشكل مركز وأنا أرى التغطية الخبرية للحكم العسكري «الكوميدي» بحق الوزير السابق ميشال سماحة والذي أقر واعترف بالصوت والصورة بأنه كلف من قبل نظام بشار الأسد الإجرامي ومن قبل بشار الأسد شخصيا والمسؤول المخابراتي الأهم علي مملوك وقائمة الأهداف التي كانت مقصودة مثل البطريرك الراعي وقيادات أمنية وسياسية من كافة الطوائف، ولا يمكن وصف ما كان مخططا له سوى بأنه إيقاد شرارة لحرب أهلية مصغرة. وبمتابعة الردود الغريبة الصادرة من بعض زعامات المارونية المسيحية إزاء جريمة الوزير الماروني الأسبق ميشال سماحة لا يملك المرء نفسه من الاندهاش والاستغراب، فميشال سماحة محسوب على مجموعة سياسية تطلق على نفسها اسما غريبا وهو محور الممانعة والمقاومة وأحيانا أخرى تطلق على نفسها مجموعة 8 آذار وتضم ميشال عون وحزبه المعروف بالتيار الوطني الحر وسليمان فرنجية وجبران باسيل وكلهم التزموا الصمت وآثروا عدم التعليق على مخطط إرهابي يأمل ويهدف إلى نسف السلام الأهلي، بل حتى راعي الكنيسة بشارة الراعي نفسه لم يعلق على المخطط الإرهابي وبطله ميشال سماحة.. كل ذلك لأجل إبقاء التحالف الوصولي قائما مع التنظيم الإرهابي حزب الله الذي يتحكم بالبلد ويهدد من يخرج على الخط المرسوم له.
المارونية السياسية في لبنان التي كانت تتطلع ذات يوم لتكوين علاقة خاصة مع فرنسا والاستفادة من نورانية العلوم والآداب والحقوق في التجربة الفرنسية الفريدة، وكانت تطلق على هذه العلاقة بفرنسا الأم الحنون، وصلت اليوم لأن تقبل وصاية نظام رجعي أصولي متخلف طائفي متعصب وعنيف وعنصري، فتحولت من حضن فرنسا الأم الحنون إلى خناق إيران «مرت الأب اللئيمة».
أي قيمة نوعية يسعى لتحقيقها البعض من النخبة السياسية المارونية في لبنان من «قبول» الانغماس أكثر في المشروع الإيراني، فالمقاومة انتهت مشروعيتها مع الاتفاق النووي الجديد، وها هم يأخذون خطا أكثر عزلة في محيطهم العربي بالارتماء في أحضان كيان غير عربي (ما الفرق بين الاحتلال الفارسي للبنان والاحتلال العثماني له ذات يوم والذي كان الهاجس الأهم أمام قيام المارونية السياسية في لبنان).
جبران خليل جبران قالها ذات يوم حينما كتب ابن بشري «ويل لأمة تحسب المستبد بطلا وترى الفاتح المذل رحيما، ويل لأمة سائسها ثعلب».
ضيعانك يا لبنان.
6:56 دقيقة
TT
من الأم الحنون إلى «مرت الأب اللئيمة»!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة