علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

هل أخرج البهبيتي من جامعة القاهرة أم هو تركها؟

لي تعليق على استدراك محمود الطناحي الإضافي على ترجمة أحمد العلاونة لنجيب البهبيتي في كتابه «ذيل الإعلام». وهو الاستدراك الذي بدأه بقوله: «إن قصة نجيب البهبيتي قصة طويلة. وفيها جانب مأساوي وخلاصة أمره»... إلخ.
أشك أن نجيب البهبيتي كان من ضمن أعضاء هيئة التدريس في جامعة القاهرة الذين فصلتهم لجنة التطهير من الجامعة في أزمة مارس (آذار) 1954؛ فلو كان من ضمنهم لكان ذكر ذلك في حديثه الساخط على ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 في مقدمته التي أشرنا إليها في المقال السابق؛ ففيها ذكر أنها استولت على المنشآت الطباعية المهمة، وحولتها من عملها الحيوي على نشر الفكر إلى أجهزة لطبع منشورات الدعاية للظلام الذي راحت تغطي به وجه الحياة كلها، وأن عبد الناصر انتزع ملكية المطابع من أصحابها، وحرف المطابع الحكومية عن العمل الثقافي إلى العمل الدعائي. ولم يتطرق إلى موضوع سبقه، وهو استيلاء الثورة على جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات بإصدار قانون 508 لعام 1954.
في تصديره لكتابه «المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين»، وهو يتحدث حديث المتهم لعلاقة طه حسين برجال الحكم (الملك فؤاد، الملك فاروق، مصطفى النحاس) قال عنه: «فأعانه عبد الناصر على تفتيت الجامعة المصرية الأولى في مصر، وعلى تبديد ما كان قد أفلت من كفاياتها قبل ذلك بأثر من عبث الرجل عبثاً مرسوماً...»، وكان هذا الموضع مناسباً لأن يتحدث عن ضحايا الفصل في جامعة القاهرة الذي هو - بحسب قول محمود الطناحي - أحدهم.
وكان قبلها قد قال عن طه حسين: «قد قربه عبد الناصر مع أنه كان يراه وهو يحمل على ظهره تلك (الخطبة المشهورة) التي كانت لا تزال تدوي أذناه بطنينها، يوم راح يطلق يده في قيادة الحياة الفكرية، ويرفعه بيديه من الهوّة الفاغرة التي كنت قذفت به فيها في سنة 1951، بعد أن طهّرت الجامعة من آرائه قبل ذلك في الأربع سنين السابقة التي درّست فيها (تاريخ الأدب الجاهلي)، ثم كشفته عارياً أمام الأعين في معركتي معه في ذلك العام نفسه. ولولا موقف كمال الدين حسين من طه حسين لانتهى إلى أفدح من ذلك».
الخطبة المشهورة يعني بها خطبة طه حسين أمام الملك فاروق: «أنا يا مولاي غرس أبيك طيب الله ثراه ونضّر وجهه، وثمرة نعمته، أرسلني في بعثتي».
الشاهد في قوله هذا جملته الأخيرة مع أنها جملة غامضة.
كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة كان هو المكلف من هذا المجلس بأن يكون حلقة اتصال بينهم وبين أساتذة جامعة القاهرة. وهو الذي طلب منهم في أحد اجتماعاته بهم كتابة بيان تأييد للثورة. والقانون الذي أشرت إليه سلفاً صدر مع توليه وزارة التربية والتعليم في 1/ 9/ 1954. ومن باب «الشيء بالشيء يُذكر» لكان ذِكْر اسم هذا الرجل ذكّره بذكر حادثة الفصل من الجامعة التي تعرّض لها، بحسب ما قال الطناحي.
مطالب أساتذة جامعة القاهرة كانت كما هي مطالب التيارات السياسية المصرية مطالب ليبرالية. وكانت هناك جبهة وطنية تضمهم مع طلابهم، ومع تلك التيارات، ومع ثلة من المحامين. والذي أنشأ هذه الجبهة في الأصل ثلاثة تنظيمات شيوعية. وفي اجتماع عقده جمال عبد الناصر في منزله حاول أن يحتويهم، لكن محاولته فشلت. فأتى قرار الفصل بناء على تقارير رُفعت بشأنهم. وهؤلاء المفصولون كانوا ينتمون إلى الحزب الشيوعي وإلى جماعة الإخوان المسلمين وإلى حزب الوفد، وكان فيهم قلَّة من الليبراليين المستقلين. وفي حديثه عن نفسه لم يشر البهبيتي إلى انتمائه إلى أي من هذه التيارات السياسية.
قد يُفهم أنه ذو ميل وفدي إنشاءً على أمرين، وهما:
أنه - كما حدث عن نفسه في مقدمته المغربية لأبي تمام - كتب في صحيفة «كوكب الشرق» التي هي صحيفة وفدية، لكن هذا الأمر فسّره بأنه كان يتردد على طه حسين، واشترك في تحرير عمود تحت عنوان «أحاديث»، «تأييداً طوعياً للأستاذ الذي كنا نعتبر إخراجه من الجامعة ضربة أُنزلت بحريتها واستقلالها، كما كنت أحرر بها صفحة أسبوعية في الأدب».
قوله في مقدمته المغربية لكتابه «تاريخ الشعر العربي حتى القرن الثالث الهجري» عن ثورة 23 يوليو 1952: «ثم أنشأت تخنق الفكر والمفكرين، مع ما كان هؤلاء قد نصروها بأقلامهم وقلوبهم عندما وهموها مجسدة لآمالهم في تكميل ما أنجزته الثورة الشعبية الوفدية التي كانت حققت لمصر كامل استقلالها السياسي والاقتصادي والقضائي. وكانت في أوائل سنة 1952 على وشك طرد الإنجليز من منطقة القناة بعمل فدائي روّع الدنيا»!
قد يشي قوله هذا بوفديته، لكنها قد تكون وفدية متأخرة منشؤها ليس الانتماء إلى حزب الوفد، وإنما كراهية ثورة 23 يوليو.
إن من بين اتهامات البهبيتي لطه حسين أنه أخّر حصوله على شهادة الماجستير وأعاق طبعها في كتاب، وفوّت عليه البعثة إلى فرنسا، وأخّر حصوله على شهادة الدكتوراه، وسهّل لبعض تلامذته السرقة من رسالتيه للماجستير والدكتوراه، ومن بحث أعده وهو طالب، وحماهم، فكيف يغفل التشنيع على ثورة 23 يوليو يوم فصلته من الجامعة، لو كانت هذه القصة صحيحة؟!
إن قصة البهبيتي ليست «قصة طويلة»، وليس فيها «جانب مأساوي». «وخلاصة أمره» أنه وبعض الأساتذة في جامعة القاهرة، وفي جامعة الإسكندرية في رواية، ذهبوا في إعارة إلى جامعة محمد الخامس في المغرب عام 1957. وكانت الحكومة المغربية أبدت للحكومة المصرية حاجتها إلى مدرسين في جامعتها الناشئة في ذلك العام.
وفي رواية أخرى تتكرر في كتب التراجم، يذكر أنه درّس أولاً في جامعة بغداد ثم درّس في المغرب.
الرواية الأولى استخلصتها من مقالات كتبها مغاربة عن ذكرياتهم عن مدرسين مصريين وشوام في جامعة محمد الخامس قرأتها على شبكة الإنترنت، ومن مقابلة أجرتها مجلة «عالم الكتاب» المصرية مع محمد السعدي فرهود في العدد 40 عام 1993؛ ففي هذه المقابلة قال: «ذهبت إلى الرباط مديراً لما أنشأته مصر فيها باسم (المركز الثقافي العربي)... سجلت موضوع الدكتوراه عن عبد الرحمن شكري عند الدكتور نجيب البهبيتي الذي كان (معاراً) إلى الجامعة نفسها. ولم يمض على ذلك الفتح عام أو عامان حتى كانت العلاقات قد ساءت بين مصر والمغرب. وأغلق (المركز الثقافي العربي) هناك، ورجعت إلى القاهرة، كما انتقل المشرف (معاراً) إلى بغداد! وهكذا أصبح الطالب في مصر والمشرف في العراق ومشروع الرسالة في المغرب. وكان ذلك في النصف الأول من الستينات».
محمد السعدي فرهود عُيّن في ذلك المنصب عام 1960. والمركز أنشئ عام 1957. وهذا يعني - إن استندنا إلى ما قاله - أن البهبيتي أعير أولاً إلى المغرب ثم أعير إلى العراق ثم أعير مرة أخرى إلى المغرب.
الرواية الثانية تعززها مقالة كتبها أحمد عبد المعطي حجازي في مجلة «الآداب» البيروتية، عدد 1 يناير (كانون الثاني) 1972، تحت عنوان «مهرجان أبي تمام: المظاهرة والمؤتمر». وهو المهرجان الذي عُقِد في الموصل في 11 ديسمبر (كانون الأول) عام 1971. وكان من بين المدعوين إليه البهبيتي الذي ألقى فيه كلمة ارتجالية وصفتها مجلة «الآداب» بالقيّمة في تغطيتها الخبرية لوقائعه.
قال حجازي في مقاله هذا فيما يبدو نقلاً عن البهبيتي: «وكان الدكتور ترك جامعة القاهرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. وأصبح أستاذاً في جامعة بغداد، ثم اختير بعدها أستاذاً في جامعة الرباط».
وتعززها ما ذكره محسن عبد الحميد أنه في أثناء دراسته بدار المعلمين العالية في بغداد، كان من بين من دعاهم لإلقاء محاضرات إسلامية في جمعية الإرشاد الديني، نجيب البهبيتي. ومحسن عبد الحميد كان قد تخرج في هذه الدار عام 1959.
ولنا أن نلحظ أن محمد السعدي فرهود قال عن نجيب البهبيتي إنه كان «معاراً» وإن أحمد عبد المعطي حجازي قال عنه إنه «ترك» جامعة القاهرة، ولم يقل إنه «أعير» منها، ولم يقل إنه «أخرج» منها.
كتب محمد عز الدين المعيار الإدريسي ترجمة لنجيب البهبيتي، قال فيها: «عمل أستاذاً بجامعة القاهرة فجامعة بغداد ثم رحل من بلده إلى المغرب بعدما أُخرج من الجامعة المصرية في أوائل ثورة 23 يوليو 1952 بقرار مما كان يُسمى في ذلك العهد (لجان التطهير)، واستقر بالمغرب، منذ أوائل الستينات، فعمل أستاذاً بكلية الآداب بالرباط، وبكلية الآداب بفاس، وبكلية اللغة العربية بمراكش التي ظل يعمل بها إلى أوائل الثمانينات، وبها كان لي شرف التلمذة له في المراحل الأولى، والزمالة في المراحل الأخيرة من حياته».
من الواضح لي أن عبارة «بعدما أخرج من الجامعة المصرية في أوائل ثورة...»، لم يشافهه بها نجيب البهبيتي حينما كان تلميذاً عنده أو حينما أصبح زميلاً له، بل نقلها من استدراك محمود الطناحي الإضافي، وغيّر «يومئذ» إلى «في ذلك العهد». ودليلي على ذلك هو احتفاظه بعبارة الطناحي «بقرار ما كان يسمى يومئذ لجان التطهير» التي لم يتصرف بها في تعديل، وكأنها عبارة لا يجوز التصرف بها، مع أنها تتضمن رأي الطناحي في تلك اللجان، وهو أنه يتحفظ على تسميتها باسم جيد وشريف. ورأى أن إيراد اسمها من دون هذا التحفظ فيه إقرار لما صنعته وفعلته. وواقع الأمر أن هذا هو اسمها «يومئذ»، و«بعدئذ»، ولم يتغير اسمها إلى اسم آخر بعد ذلك. والتطهير سياسة مرتبطة بالأنظمة الشمولية الثورية. وبخصوص تجربة مصر معه كان الإخوان المسلمون وسيد قطب على حدة هما اللذان دعوا إليه قبل أن يعلن عنه ويبدأ تنفيذه في 23 يوليو 1952.
بحثت عن اسم نجيب البهبيتي في أسماء المفصولين من أساتذة الجامعات من قبل لجنة التطهير، لكن المشكلة التي واجهتها أن الكتب التي تناولت هذه الحادثة تذكر أسماء على سبيل التمثيل لا الحصر، لأن أعدادهم كانت كثيرة؛ ففي الدفعة الأولى بلغ عددهم ستة وأربعين اسماً، ثم زاد إلى سبعين اسماً.
في كتاب أنور الجندي «كتّاب العصر تحت ضوء الإسلام» الصادر عام 1997، قال - وهو يدافع عن نفسه كتابيه: «طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام» و«محاكمة فكر طه حسين» - : «ولعل أقرب الطرق إلى التعرف على حقيقة إنسان ما، هم أهله وأقرب الناس إليه والذين تتلمذوا عليه، وعرفوه عن قرب، وهؤلاء هم أقدر الناس على تصويره والحديث عنه. وهؤلاء ما زالوا يتحركون في دائرة الثقافة، وقد كتبوا أو ما زالوا شهوداً، هناك الأساتذة: محمود محمد شاكر، ودكتور نجيب البهبيتي، وهناك دكتور محمد محمد حسين. وزكي مبارك، ومحمود الخضيري رحمهم الله، ولهم كتابات مسجلة تكشف موقف الدكتور طه حسين منهم عندما اختلفوا معه في رأي من الآراء، وما نالهم من الاضطهاد والإبعاد. الدكتور محمد محمد حسين هاجر إلى بيروت ثم إلى الرياض، والدكتور البهبيتي إلى المغرب، والدكتور الخضيري أخرج من الجامعة، لأنه ترجم ونشر رسالة ديكارت (مقال عن المنهج) التي ادعى طه حسين أنه يتخذها منهجاً له، وهي لا تحتوي أي عبارة مما نسبها إلى ديكارت».
لندع الآن ما قاله عن اضطهاد طه حسين وإبعاده لمحمود محمد شاكر وزكي مبارك ومحمود محمد الخضيري، لأن له حديثاً آخر، ولنتوقف عند اضطهاد طه حسين لمحمد محمد حسين ونجيب البهبيتي وإبعاده للأول عن جامعة الإسكندرية وإبعاده الثاني عن جامعة القاهرة.
الفقرة السابقة التي استشهدت بها قالها أول مرة في مقال له في عدد من أعداد مجلة «الاعتصام» عام 1989.
وما قاله في هذه الفقرة عن محمد محمد حسين وعن نجيب البهبيتي لم يقله في كتابه الأول الصادر عام 1976. ولا في كتابه الثاني الصادر في عام 1984.
إن أنور الجندي يعلم جيداً أن محمد محمد حسين كان معاراً من جامعة الإسكندرية إلى جامعة بيروت في العام الدراسي (1970 - 1971)، وكان قبلها معاراً إلى الجامعة الليبية. وفي عام 1972، بلغ سن التقاعد، فتعاقد مع جامعة بيروت العربية وظل فيها إلى أن تعاقد مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
وما قاله عن البهبيتي قاله عنه عبد المجيد عبد السلام المحتسب في كتابه «طه حسين مفكراً»، الصادر عام 1978 بتوسع.
يقول في هذا الكتاب: «وصنع مثل ذلك مع الدكتور نجيب البهبيتي الذي تخصص في الأدب العربي مثل الدكتور طه حسين، ولكنه ما إن كشف الألاعيب التي تُحاك للناس، وما إن اختلف مع الدكتور طه حسين حتى أعلن عليه حرباً شنعاء لا هوادة فيها، أضرت بالرجل في نفسه وفي رزقه. وأودت به إلى المغرب طلباً للرزق، وانتهى به الأمر فيما علم الدكتور عبد الحي دياب إلى التجنس بالجنسية المغربية».
المحتسب من صفحة 119 إلى صفحة 122 في كتابه، أعلمنا أنه ينقل من كتاب عبد الحي دياب «الإقطاع الفكري وآثاره»، وزاد على ذلك أنه في الهامش أحال إلى عدد من صفحات أخرى من هذا الكتاب.
وهذا باحث إسلامي من الكويت اسمه مهنا حمد المهنا كتب بتاريخ 1 مارس 2019 تغريدة في شبكة الإنترنت، معرّفاً بكتاب «المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين» وبصاحبه، قائلاً: «هذا كتاب العلامة المفكر المرحوم الذي ظلمه التاريخ، نجيب البهبيتي. وهو من مفاخر مصر والإسلام والعروبة في هذا العصر، الذي هاجر إلى المغرب ومات فيها بعد أن ضيق عليه (عبد الناصر) و(طه حسين) و(العلمانيون) في مصر، فرفع قلمه مدافعاً منافحاً عن الإسلام والعروبة حتى وفاته. وكتابه هذا دليل على ذلك!».
في هذه الرواية دمج هذا الباحث بين رواية المحتسب ورواية الجندي ورواية الطناحي مع التصرُّف في كل واحدة منها والزيادة فيها. وللحديث بقية.