د. ياسر عبد العزيز
TT

3 مشكلات إعلامية في الانتخابات الفرنسية

عند كتابة تلك السطور لم تكن نتيجة الجولة الحاسمة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية قد أُعلنت، وعند قراءتها سيكون، على الأرجح، قد عُرف اسم رئيس فرنسا للسنوات الخمس المقبلة، الذي تؤكد معظم المؤشرات السياسية ونتائج استطلاعات الرأي الموثوقة أنه الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون.
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من قراء «الشرق الأوسط» ليسوا بالطبع مواطنين فرنسيين، وبالتالي ليس لديهم الحق في التصويت، فإننا جميعاً كان بوسعنا أن نعرف كل شيء عن تلك الانتخابات، وأن نحظى بعرض تفصيلي لطبيعة القضايا المتصلة بها، وأن ندرك حظوظ المرشحين، وتوجهاتهم، ومواقفهم، ونحيط بتفاصيل سيرهم الذاتية كلها.
إن الفضل في تلك الحالة الشفافة والكاشفة لتفاصيل العملية الانتخابية في هذا البلد المهم إنما يعود في الأساس إلى أداء قوي وفعّال لوسائل الإعلام الدولية عموماً والفرنسية خصوصاً، وتلك الأخيرة بالذات كشفت عن جاهزية واضحة لمواكبة عملية انتخابية دقيقة وحساسة من جانب، وبرهنت على امتلاكها قدراً مُعتبراً من العراقة والتعددية والمهنية جديراً بالإعجاب من جانب آخر.
ومع ذلك، فإن ثمة مشكلات ظهرت في تغطية الإعلام الفرنسي، بشقيه «الجديد» و«التقليدي»، لهذا المعترك الانتخابي الحرج، الذي يحظى باهتمام سياسي أوروبي وعالمي كبير؛ وأولى هذه المشكلات ربما تتجسد في الدور المتصاعد والمُلتبس لـ«الشبكات الاجتماعية».
ولتوضيح تلك المشكلة، سيكفي أن نعرف أن معظم جهود المرشحين الإعلامية في مرحلتي الانتخابات انصرفت للتركيز على عالم الوسائط الجديدة، التي أظهرت زخماً كبيراً، وأعطت انطباعاً بامتلاكها قدرات حسم عاتية، في مقابل تراجع الاهتمام بأدوار الإعلام «التقليدي»، الذي أثبت تمتعه بقدر أكبر من الدقة والتوازن واحترام المعايير.
يقول فيليب مورو، أستاذ الاتصال في «ساينس بو»، بعد دراسته للتغطية الإعلامية للعملية الانتخابية، إن «قياس التفاعلات وكثافة الحضور على (الشبكات الاجتماعية) سيظهر أن مرشحي اليمين المتطرف إريك زمور واليسار المتطرف جان لوك ميلينشون يتصدران السباق، وأن أحدهما على الأقل سيكون رئيساً أو سيخوض جولة الإعادة».
لم تكن تلك هي النتيجة بالطبع، فقد خسر المرشحان الأكثر تطرفاً في الجولة الأولى للانتخابات، بعدما كسبا أرضاً وأنصاراً وأثراً في حظوظ المتنافسين الرئيسيين؛ وهو الأمر الذي يعزز فكرة أن «الشبكات الاجتماعية» تكافئ المتطرفين عبر تضخيم حضورهم وحظوظهم الانتخابية.
أما المشكلة الثانية، فتتمثل في أن ميراثاً عظيماً من معايير المواكبة الإعلامية النزيهة والعادلة للانتخابات العامة في فرنسا أضحى في مهب الريح، بسبب اعتماد قطاعات كبيرة من الجمهور على «الشبكات الاجتماعية» في متابعة الانتخابات، وهي شبكات لا تلتزم بالحد الأدنى من تلك المعايير والتقاليد، خصوصاً في ما يتعلق بمنح مساحات متكافئة للمرشحين، وعدم التورط في نقل أخبار غير دقيقة أو منح صفات وأدوار زائفة للمتنافسين.
وتتعلق المشكلة الثالثة في المواكبة الإعلامية لتلك الانتخابات في إضعاف دور الإعلام العمومي الفرنسي لصالح الإعلام الخاص «التقليدي» من جانب و«الشبكات الاجتماعية» من جانب آخر.
لقد أثبتت الدراسات الموثوقة أن وجود منظومة إعلام عمومية مملوكة للدولة، وتعتمد أداءً معيارياً خاضعاً للتقييم في بيئة ديمقراطية، يُعد أحد أهم أسباب اهتمام الجمهور بالمشاركة في الانتخابات، كما يحسن قدرة هذا الجمهور على فهم طبيعة القضايا المثارة خلالها، وتقييم أداء المرشحين، ومن ثم اتخاذ القرار المناسب، بما يثري العملية الانتخابية والممارسة الديمقراطية.
وفي هذه الانتخابات، تم سحب البساط للأسف الشديد من تحت أقدام الإعلام العمومي، الذي لم يتخاذل في أداء دوره، كما بات مستقبله مرهوناً لتقلبات السياسة؛ إذ تتبنى مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان موقفاً صارماً من هذا الإعلام إلى حد إعلانها العزم على بيع مؤسساته للقطاع الخاص في حال نجاحها في الانتخابات، بينما أعلن الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، عن عزمه إلغاء الضريبة التي تمول القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية العامة.
وفي خضم معترك المنافسة الشرسة على الفوز بأصوات الناخبين، لم ينظر معظم المرشحين إلى أهمية الاستثمار في الإعلام العام، الذي يخدم في الأساس مصلحة المواطن، في حال امتلك القدرة على البقاء بمنأى عن التورط في خدمة خط سياسي معين، وبمعزل عن الوقوع في الأخطاء المهنية المؤثرة.
تعطينا الانتخابات الرئاسية الفرنسية سبباً جديداً للوثوق في قدرة الإعلام «التقليدي» الجيد على خدمة الجمهور وصيانة الديمقراطية وتحسين كفاءة العمليات الانتخابية، لكنها في الوقت نفسه تحذر من مخاطر ميل غير مدروس للتعويل على «الشبكات الاجتماعية» في هذا المحفل بكل ما نعرفه عنها من مثالب وقابلية للاختراق والتضليل ومكافأة الميول الحادة والمتطرفة.