عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

مع أوباما وفريد زكريا

بنت السعودية وأميركا علاقاتٍ قديمة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة واللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت وإلى اليوم، وحين نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً عن توتر العلاقات بين البلدين قبل أيامٍ، ردت السفارة السعودية في واشنطن بأن «العلاقات تاريخية وقوية».
دول الخليج العربي بنت نفس العلاقات مع أميركا، وكان الطرفان العربي والأميركي متفقين في معظم الملفات الكبرى إبان الحرب الباردة، في مواجهة الشيوعية واليسار ثم «النظام الإيراني» ومن بعد في مواجهة «الإرهاب»، ولم تتغير السعودية والإمارات تحديداً، ولكن أميركا تغيرت، ومنذ أصبح «أوباما» رئيساً عمل بفكر يميل لليسار الليبرالي وسياسات غير ودودة تجاه الدول العربية مع توددٍ غير مسبوقٍ للنظام الإيراني وتحالفٍ مع جماعات الإسلام السياسي، وبدأ الخلاف يتسع.
في أحداث ما كان يعرف زوراً بـ«الربيع العربي» كان أوباما يسابق الجماهير في «القاهرة» و«بنغازي» و«المنامة» ويستخدم وسائل التواصل الاجتماعي و«السوشيال ميديا»، وفي الوقت الذي سعى لإسقاط الأنظمة العربية كان يطبخ «الاتفاق النووي» مع إيران، ويدعم استحواذ «جماعات الإسلام السياسي» على السلطة، تنبّهت السعودية والإمارات مبكراً لكل التفاصيل التي تحرّك هذا التوجه السياسي المعادي وتشكل التحالف المنقذ في العالم العربي بين الدولتين.
نجح هذا التحالف في إنقاذ «البحرين» و«مصر» من براثن الفوضى والإرهاب ومنع سقوط وتفكك «ليبيا» ومن بعد تشكل «التحالف العربي» لإنقاذ اليمن، وتمت عودة الدولة في «تونس» وكل هذا تمّ دون رضا أميركي، بل بمواقف لا يمكن وصفها بالودودة أو الصديقة، والسياسات والقرارات والتصريحات الأميركية موثقة ومؤرخة ويعلمها الجميع.
كشفت مذكرات أوباما وتصريحاته بعد انتهاء ولايتيه، وما كتبه المقربون منه عن تفاصيل لم تكن معروفة ساعة وقوع الأحداث وتشكل السياسات، وجاءت ولاية الرئيس «ترمب» فعاد الصفاء مؤقتاً للعلاقات، ولكن بعودة «بايدن» عادت سياسات أوباما وفريقه بنفس التوجهات وذات الأشخاص أحياناً، وأصبحت التصريحات أكثر صراحة ووقاحة، وحين بدأت الحرب «الروسية الأوكرانية» كان المشهد الدولي على موعدٍ مع حدثٍ كاشفٍ لما كان يعتمل قبله تحت السطح، وكانت السعودية والإمارات قد أنجزتا علاقاتٍ متقدمة مع الصين وروسيا في توازنٍ دقيقٍ وعملي أذهل المراقبين حول العالم.
بعد محاولات لممارسة الضغوط لم يستجب لها أحدٌ، بدأت الإدارة الأميركية في مراجعة سريعة لمواقفها، وعلمت جيداً أن الدول الواعية والقوية والحية والمؤثرة قادرة على قلب الكثير من الموازين، وبدأت أميركا في إرسال المسؤولين الرفيعين؛ وزراء ومستشارين، وفي إرسال أقرب حلفائها رئيس الوزراء البريطاني للمنطقة، والسعودية والإمارات تحديداً، وشرعت أميركا في اتخاذ مواقف أكثر عقلانية وواقعية، وتم إنجاز عهد جديدٍ لبناء مستقبل أفضل لليمن دولة وشعباً، وأصبحت إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة، وتراجعت تركيا عن غالب السياسات العدائية ضد دول الخليج، وفي الوقت نفسه فإن «مفاوضات فيينا» لم تؤدِّ إلى «اتفاقٍ نووي» جديدٍ مع إيران.
لم تُجد شيئاً تصريحات هيلاري كلينتون عن «العصا والجزرة»، إلا أنها ذكّرت العالم بحادث إغلاق الأمير سعود الفيصل للهاتف في وجهها إبان الهيجان الأميركي في أحداث «الربيع العربي»، وعملياً أخذت تصريحات أكثر وداً تخرج من أعضاء فاعلين في الإدارة الأميركية الحالية تؤكد على التحالف القديم والمصالح المشتركة، وعلى أهمية ضمان أمن دول الخليج وترشيح مايكل راتني سفيراً لدى السعودية لاستدراك الأخطاء وإصلاح ما خربته الآيديولوجيا اليسارية الليبرالية من علاقاتٍ ومصالح.
ثار جدلٌ مستحقٌّ منذ أكثر من عقدٍ من الزمان بين النخب الثقافية في العالم العربي ودول الخليج إبان «الربيع العربي» المشؤوم عن «الديمقراطية» و«الحرية» و«الجماهير» ووسائل التواصل الاجتماعي و«الإسلام السياسي» و«استقرار الفوضى» والفرق بين غايات ومصالح الدول العربية وأميركا والدول الغربية من جهة أخرى، وانحاز الغالبية للغرب وسياساته وتياراته وبقيت القلة تؤكد على تباين المصالح وتناقض الغايات، وقد اتضحت الصورة اليوم. موقفان يستدعيان التعليق في هذا السياق، الأول، حديث «أوباما» في سان فرانسيسكو والثاني، مقال «فريد زكريا»، أوباما دعا إلى «إصلاح القوانين التي تحكم شبكات التواصل الاجتماعي لتصبح أكثر مسؤولية وشفافية»، وأن المشكلة تكمن في «المحتوى الذي تروج له هذه المنصات»، وأنها ليست «حيادية»، وانقلب السحر على الساحر باعتراف مباشر وصريح.
زكريا بدوره وبعد أن هام في عدائه للسعودية والإمارات سنين عدداً - مثله مثل إعلام اليسار الليبرالي - عاد ونشر مقالة في «واشنطن بوست» نفسها - ويا للمفارقة - ليؤكد أهمية دور السعودية والإمارات في قيادة المنطقة والتأثير في توازنات القوى في العالم، وعرف عبر الطريق الصعب ما كان يمكن معرفته بطرقٍ أسهل وأكثر عقلانية وعملية، وكنت قد التقيته شخصياً حين زيارته للرياض 2004 التي عاد منها ونشر تقريراً لا يمت للصداقة بصلة.
مقالة فريد زكريا المنشورة قبل أيامٍ نموذج يشرح كيف يمكن أن تخضع الدول العظمى مثل أميركا، لقوى أصغر منها مثل السعودية والإمارات، إذا أديرت المعركة بعقل وحكمة وشجاعة، ويكفي تذكر حملات «واشنطن بوست» واليسار الليبرالي الأميركي ضد السعودية في الإعلام وفي السياسة ورصد التحولات والمراجعات. للحقيقة وللتاريخ، فلم تتراجع السعودية والإمارات، ولكن أميركا تراجعت، هذه حقائق باردة ووقائع معلنة، وهي نتاج سياسات العقل والحكمة والشجاعة والبعد عن «الآيديولوجيات» التي تعمي السياسيين حتى وإن قادوا دولاً عظمى، وهو أمرٌ يسعد الصديق ويسوء العدو من دون شك.
يتبادر إلى الذهن موقف عددٍ من النخب العربية المثقفة التي كانت تدافع عن «أوباما» وما زال بعضها يدافع عن «بايدن» والتي حاولت وتحاول تبرير كل السياسات العدائية الأميركية، ويجب أن تسأل عن موقفها اليوم، وكيف تقرأ التحول الكبير الذي جرى ويجري في أميركا تجاه المنطقة ودولها وملفاتها الساخنة؟
أخيراً، فثمة سؤال يجب طرحه هنا، وهو هل يمكن أن تتغير أميركا في سياساتها تجاه المنطقة دولاً وشعوباً مستقبلاً بعدما وجدت نفسها مضطرة اليوم إلى التراجع والمراجعة؟ والجواب هو بالتأكيد نعم، فهي دولة عظمى وإمبراطورية كبرى، ولكن الرهان الحقيقي هو على دول المنطقة في السعودية والإمارات والحفاظ على سياسات العقل والحكمة والشجاعة في مواجهة أي تحدياتٍ مستقبلية.