رزان خليفة المبارك
الأمين العام لهيئة البيئة - أبوظبي
TT

التعليم وصناعة الوعي البيئي

كثر الحديث حول أسباب المشكلات والتحديات البيئية والحلول المناسبة للحد منها وتعزيز الاستدامة؛ وفي كل محور من هذا الحديث نجد أن نشاط الإنسان جزء كبير من المشكلة وعامل أساسي في الحل. لعل التشريعات والضوابط واللوائح القانونية التي تضعها الدول لحماية البيئة وفرض معايير ملزمة لعدم الضرر بها، خطوة أساسية وضرورية جدا نحو استدامة المجتمعات وحماية المستقبل، ولكن يبقى نجاحها متوقفا على مدى التزام الإنسان بهذه القوانين، بل ومدى فهمه للقضايا المتعلقة بالبيئة ومساهمته في إيجاد الحلول.
يشير تقرير التنمية البشرية الذي أجرته الأمم المتحدة في عام 2011 حول الاستدامة، إلى أن الحل الأول والفعال للحد من التلوث وانبعاث الغازات الدفيئة، يمكن أن يتحقق من خلال التقليل أو الامتناع عن الأنشطة التي تسبب انبعاث هذه الغازات. فعلى سبيل المثال، تبلغ مساهمة الفرد في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في النرويج نحو (11 طنا) أي أقل من ثلث مساهمة الفرد في دولة الإمارات العربية المتحدة (35 طنا) على الرغم من تسجيل البلدين ارتفاعا في نسبة الدخل. وبحسب هذا التقرير، سجلت البلدان العربية أعلى معدلات التلوث للفرد في المدن بين مناطق في العالم وأعلى درجة استخدام للوقود الأحفوري، مما يعرض استدامة المنطقة وتنميتها للخطر. ويشير التقرير إلى أن أربع دول من منطقة الخليج ضمن أعلى خمس دول مسببة للتلوث بثاني أكسيد الكربون.
ومع تطور نوعية الحياة في منطقة الخليج وازدهار الحالة الاقتصادية، ازداد الطلب على الموارد المائية والكهربائية والاعتماد على المواصلات مما شكل زيادة في نسبة انبعاثات الغازات الدفيئة. منذ نحو عشر سنوات، تبنى برنامج الأمم المتحدة للبيئة استراتيجية طويلة الأمد لتشجيع الشباب على الاندماج في العمل البيئي. تسعى هذه المبادرة إلى زيادة وعي الأجيال الناشئة في القضايا البيئية إيمانا من منظمة الأمم المتحدة أن صناعة الوعي البيئي يبدأ في الصغر ليحقق الأهداف المرجوة، فغرس الوعي البيئي في مراحل مبكرة هو استثمار بعيد المدى يضمن تحقيق مجتمع مستدام، حيث تكون القضايا البيئية جزءا لا يتجزأ من أولويات الحكومة والمجتمع المدني.
يعد قطاع التربية والتعليم من أهم القطاعات التي من شأنها أن تسهم بشكل كبير في هذه العملية، فبإمكان المؤسسات التعليمية تبني مبادرات تؤهل الطالب لتحمل المسؤولية البيئية وفهمها كما تمكنه أن يكون جزءا في عملية صنع القرار المتعلق بالقضايا البيئية. كما يجب أن تساعد المنظومة التعليمية في صنع حضارة مثقفة بيئيا تركز على أسس الحفاظ على البيئة، وأن يصبح التعليم البيئي جزءا من مفهوم الحضارة الإنسانية الذي يشمل علوم الفلسفة والفن والعمارة والطب والفيزياء وغيرها.
يبدأ سلوك الطلاب تجاه البيئة من المدرسة؛ فعلى سبيل المثال يقوم الطلاب ضمن مبادرة المدارس المستدامة بقياس البصمة البيئية للمدرسة، ومن ثم ابتكار مجموعة من الخطوات لخفض البصمة البيئية. إن هذه المبادرة وغيرها من المبادرات التي تعتمد أسلوب التعليم التطبيقي وليس النظري فقط، تزود الطلاب بالمعرفة اللازمة لمواجهة المشكلات البيئية مثل الاحتباس الحراري وتمهد لإعداد جيل من القادة البيئيين يكون على قدر كبير من الوعي والقدرة على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية في التعامل مع هذه التحديات بالبيئية.
ومن المبادرات البيئية التعليمية القيمة التي تنتهج منهج التعليم التطبيقي وتتيح للطلاب التعامل بشكل مباشر مع القضايا البيئية، مبادرة مجموعة الإمارات للبيئة البحرية، حيث تنظم المجموعة رحلات ميدانية لطلاب المدارس والجامعات إلى محمية غنتوت الطبيعية ليتعرفوا عن كثب على الحياة البحرية وما يهددها، ويطلعوا أيضا على الجوانب التراثية لها كالصيد والغوص. كما تستحق مبادرة «جامعة الصحراء» في سلطنة عمان كل التقدير، حيث استطاعت أن تجسر الهوة الثقافية بين طلاب من مختلف بقاع الأرض عن طريق الاندماج في البيئة الصحراوية وتجربة العيش فيها والتفاعل مع مختلف جوانبها.
وهناك مبادرات أخرى كبرنامج الماراثون البيئي في قطر والإمارات العربية المتحدة الذي يعزز ثقافة الأطفال بالمصطلحات البيئية ويرسخ أسس السلوك ‏البيئي السليم في نفوس الطلاب. ومن أجل إشراك كل أفراد المجتمع في برامج التعليم البيئي، أصدرت هيئة البيئة - أبوظبي كتيبات حول بيئة دولة الإمارات العربية المتحدة بلغة «برايل» للمكفوفين لتؤهلهم للمشاركة في البرنامج. خلال الـ12 عاما الماضية، شارك في هذا البرنامج نحو 1.3 مليون طالب. لا تستهدف البرامج التربوية البيئية الطلاب فقط، بل المعلمين أيضا من خلال بناء قدراتهم المعرفية والمهارية بالقضايا البيئية وتمكينهم من إدارة بيئة المدرسة والمبادرات البيئية بشكل فعال وإيصال الرسائل المهمة للطلاب وتحفيزهم على المشاركة.
ومن خلال دعم المنظمات البيئية غير الحكومية سواء كانت محلية أو عالمية نعزز تطوير وتطبيق مبادرات في مجال التعليم والتوعية البيئية، على سبيل المثال تقوم جمعية الإمارات للحياة الفطرية بالتعاون مع الصندوق العالمي لصون الطبيعة ببرنامج المدارس البيئية بالتعاون مع مؤسسة التعليم البيئي غير الحكومية. يعمل هذا البرنامج على إشراك الأطفال والشباب في قضايا رئيسة مثل البيئة، والاستدامة، والمواطنة العالمية وأهمية العمل من أجل مستقبل ذي انبعاثات كربونية أقل.
وهناك مناسبات بيئية عالمية تحث وتشجع المدارس وأفراد المجتمع على المشاركة مثل يوم المياه العالمي، يوم البيئة العالمي، يوم التنوع البيولوجي، يوم الأرض، ساعة الأرض مما يساعد في نشر الوعي البيئي على مستوى العالم.
كما أن هناك جهودا، ما زالت متواضعة، تشجع على التعاون ما بين المؤسسات والهيئات البيئية بين دول منطقتنا لدعم تبادل الخبرات والمعارف. ما نحتاجه لتحقيق مجتمعات أكثر وعيا ومشاركة في العمل البيئي هو الارتقاء بالمبادرات المحلية وتفعيلها على مستوى المنطقة، مما يساعد على تعزيز الاستدامة في منطقة الخليج، خصوصا أن بيئتنا في دول الخليج واحدة والتحديات التي نواجهها متشابهة.
تستحق المبادرات التربوية كل التقدير والمتابعة، ولكننا نطمح إلى أن تكون التربية البيئية جزءا من المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، تماما مثل المواد الأدبية والعلمية أو التربية الرياضية. نحن على ثقة بأن رؤية قياداتنا الرشيدة تنسجم مع رؤيتنا كمؤسسات لحماية البيئة،. وتدرك أهمية ضرورة إدماج التربية البيئية ضمن المناهج التعليمية لمخاطبة هذه الشريحة التي تعتبر العمود الفقري لمجتمعاتنا وثرواتها في تحقيق التطور والنمو المستدام.
ما نحتاجه اليوم هو بناء قدرات صناع قرار الغد. إذا تضافرت الجهود في المدارس لتعزيز قدرات الطلاب وإكسابهم المعارف والمهارات والسلوكيات البيئية بأهمية الحفاظ على البيئة منذ المراحل الأولى، فذلك يعني تنشئة جيل منتج وصديق للبيئة، يسهم في توفير كثير من الطاقة والوقت والجهد الرامي لحماية البيئة واستدامتها إزاء تضررها اليومي من نشاطات الإنسان في ظل غياب الوعي البيئي.
* أمين عام هيئة البيئة - أبوظبي