شخص مثلي لا بد أن يشعر بإحباط من المنحى الذي اتخذته عملية التغيير السياسي في العراق، على كل الاتجاهات. حيث تحول العراق إلى دولة مريضة تتنازعها المصالح الدولية والإقليمية والمحلية، والأكثر بؤسا أن يتمادى المفسدون والخصوم والأعداء، وأن يحرم العراق من فرص إعادة بناء القوة ولو مؤقتا.
وفي المجال الأمني والسياسي الداخلي، فقد خسر العراق خسارة مدمرة في حرب الخليج الثانية 1991، وهزم هزيمة عسكرية مدمرة، وخرجت 13 محافظة خروجا تاما عن سيطرة الدولة من أصل 18 محافظة. وعندما جاء مسعود بارزاني إلى بغداد للتفاوض في ربيع ذلك العام، بعد أن استعاد النظام السيطرة على الموقف، أدهشتني أقواله، التي لا تزال نبراتها عالقة في ذاكرتي بنصوصها، ومنها: «قضيت 12 عاما في إيران ولا أريد ترك العراق.. وإذا أعطانا الرئيس 5 في المائة من حقوقنا سنوافق..»، والشهادة لله، أنه لم يتطرق بكلمة واحدة إلى «حرب الأنفال، وضرب حلبجة بالأسلحة الكيماوية، التي استغلت سياسيا بطريقة فظيعة بعد سقوط النظام، ولا قصة تهجير نصف مليون كردي فيلي إلى إيران».
الآن، ولأسباب داخلية، يحاول بارزاني بذل المستحيل لكسر إرادة المعارضين الكرد لتجديد ولاية غير دستورية لرئاسته للإقليم، ويحاول تسويق نفسه عربيا وتركيا وأميركيا على أنه أحد سدود منع التمدد الإيراني، دون أي دليل مادي أو فلسفي يمكن التعويل عليه. فخلال تاريخه كله لم يحاول المس بالوجود الإيراني، وإلى قبل يومين، بعث إلى طهران من يحاول كسب ودها، وقد أشاد بالدور الإيراني بعد استدارة «الدواعش» نحو الإقليم، الذين نكثوا كما فعلوا مع رفاقهم من الصداميين من أتباع عزة الدوري.
والحقيقة التي لا أشك فيها أبدا هي أنه من المستحيل أن يستطيع بارزاني تجديد ولايته من دون موافقة أو سكوت إيراني.
مشكلة بارزاني تكمن في عقدتين، الأولى: رفعه شعار الانفصال كسلاح ضد خصومه المحليين، والثانية: ضعفه في قراءة تاريخ نهوض الأمم من كبواتها. فيخطئ الحساب، ويتسبب في كوارث متكررة.
وعلى مستوى الزعامة الكردية التي يراوده حلمها، فالأكراد السوريون على قلتهم وحاجتهم لم يعترفوا بزعامته القومية قطعا، وأكراد تركيا بقي اهتمامهم محصورا بأوجلان، وأكراد العراق يزدادون بعدا عنه يوميا، رغم استغلاله للمال والسلطة.
نعم، لقد نجح بارزاني في استقطاب عدد من سياسيي المناطق المحتلة من قبل «الدواعش»، لأنه يوفر مكانا لإقامتهم ولأموالهم المنهوبة من فقراء العراق، غير أنهم سيقعون في مأزق الاتهام بالخيانة، عندما يجدون أن مناطق توسع نفوذ بارزاني هي مناطق تخص اهتمام «سنة عرب العراق» ووجودهم، وسيجد أبناء هذه المناطق أنفسهم أقرب إلى بغداد من أي مكان آخر.
ومن هنا تزداد بغداد قوة وتيار بارزاني ضعفا، فتزداد فرص نشوب حرب عراقية أخرى سببها أوهام بارزاني. بينما يتصرف بعقلانية وحكمة كل من الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس طالباني وشقيقته كتلة التغيير بزعامة مناضل كردي عتيد هو نوشيروان مصطفى، الذي شهدنا له مواقف صلبة في بغداد.
من الأشياء التي لا أشك فيها أبدا أن بارزاني عمل على التفريق بين سنة وشيعة عرب العراق، غير أن توجهه الانفصالي سيدفع معظم سنة عرب العراق - عدا مجموعات من تجار سياسيي الأنبار ومناطقيي الموصل - إلى العودة إلى بغداد وتوحيد النسيج العربي بعيدا عن الطائفية، وسيواجه عندئذ موقفا صعبا تجاه الشعب الكردي، الذي ملَّ الحروب والأزمات والكوارث.
ولسوء حظ العراقيين، يبدو أن اندفاع بارزاني سيقود إلى تصعيد في المواقف وصولا إلى حالة الحرب، بعد أن يتمكن العراقيون من إعادة بناء قوتهم، وهي ممكنة خلال فترة أقصر كثيرا مما قد يظنها بارزاني، وإن تظاهره بأن استقلال الإقليم سيبقى ضمن مبادئ الحوار يتناقض كليا مع استيلائه بالقوة على أراض تعتبرها بغداد خارج نطاق التفاهم، لا سيما أنه أخطأ كثيرا عندما أخذ يكرر مصطلح «حدود الدم» ولا تراجع عن المناطق التي وصلت إليها قواته.
مصدر التوتر الكردي الرئيسي هو سياسة بارزاني ونزعته في الهيمنة، ظنا منه أن ضعف بغداد أقرب ما يكون إلى مرض الدولة العثمانية، غير أنه يخطئ الحساب، عسى أن يهدي الله النفوس إلى ما يجنبهم حربا أكثر مرارة. ولا أظن.
7:52 دقيقه
TT
هل تقود أوهام الزعامة إلى حرب أكثر خطورة في العراق؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة