فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الآيديولوجيا حين تتحكم بالترجمة

في مقابلة خاصة نُشرت في «الشرق الأوسط» عام 1999، سألنا الشاعرة البريطانية كاثلين رين، التي رحلت عام 2004 عن خمسة وتسعين عاماً، وتعد واحدة من أكبر الشعراء البريطانيين في القرن العشرين، إذا ما كان هناك شعر عظيم هذه الأيام، أو شاعر عظيم على مستوى ييتس، التي عاصرته في أيامه الأخيرة، أو بمستوى إزرا باوند أو تي. إس. إليوت، فأجابت بالنفي. ثم استدركت بقولها إنها مؤمنة بأن الشعر العظيم سيأتي من الشرق ومن روسيا بالتحديد، لأن الثقافة الغربية المادية، حسب رأيها، لم تعد تسمح بظهور شاعر عظيم... كانت المقابلة قد جرت بعد ثماني سنوات من سقوط الاتحاد السوفياتي، عام 1991، أي مرت الآن عليه أكثر من ثلاثة عقود، وهي فترة زمنية ليست بالقليلة. وللأسف، أننا لم نعد طوال هذه الفترة نعرف شيئاً كثيراً عن الأدب الروسي، وأدب الجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي السابق، ومنها أوكرانيا التي أنجبت غوغول، لسبب بسيط هو غياب الترجمة.
لقد اهتم الغرب بالأدب الروسي، وخاصةً في الخمسينات والستينات منذ أن خصص الشاعر البريطاني الراحل تيد هيوز أعدادا من مجلته «الشعر مترجماً» لكُتاب البلدان الاشتراكية، الذين أطلقوا عليهم صفة «المنشقين» لأسباب آيديولوجية واضحة ضمن الصراع القائم بين المعسكرين، وترجمت، وأولت أيضاً، كثيراً من الأعمال الأدبية، كما حصل، على سبيل المثال، مع الشاعر والروائي الروسي بوريس باسترناك - نوبل 1958، التي رفضها فيما بعد بضغط من سلطات بلاده آنذاك -، وألكسندر سولجنيتسين - نوبل 1970، والشاعر يوسف برودسكي - نوبل 1987.
هذا لا يعني أن أعمال هؤلاء الكبار لا تستحق التكريم والاحتفاء، بل على العكس، لكن لا يمكن نفي «الدافع الآيديولوجي» وراء ذلك، فهناك كثير من أدباء البلدان الاشتراكية ممن لا ينطبق عليهم توصيف «الكتاب المنشقين» لم يلقوا مثل هذا الاهتمام، ومنهم على سبيل المثال، الشاعر الروسي العملاق أندريه فوزنيسينسكي، الذي اعتبره الشاعر الأميركي لورنس فيرلنغيتي أحد أعظم خمسة شعراء في القرن العشرين، ومع ذلك قلة يعرفونه في الغرب، مع أنه لم يكن على وفاق مع سلطات بلاده، لكنه لم يصل إلى درجة «الانشقاق». لكن ترجمات الأدب الروسي قد قلت كثيرا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فلم تترجم إلى اللغة الإنجليزية خلال أكثر من ثلاثين سنة سوى كتب روسية معدودة. لقد اختفى الدافع الآيديولوجي! وبالطبع التقط الناشرون بحسهم التجاري الدقيق الإشارة، فللسياسة ودهاليزها انعكاسها الكبير على حركة السوق، وإن كانت سوق الكتب!
لكن الحس التجاري هذا استيقظ مرة أخرى مع غزو روسيا لأوكرانيا، فرأينا سباقاً بين دور النشر الغربية لترجمة روايات الروسي فلاديمير سوروكين، المعروف بعدائه لسياسة بوتين، ووقوفه ضد الغزو. وستترجم له خمس روايات دفعة واحدة، كما كتب عنه الكثير في صحف أميركية وبريطانية، وكأنهم اكتشفوه فجأة، حتى أن صحيفة «نيويورك تايمز» استغربت من عدم الاهتمام من قبل بأعمال هذا الروائي وكاتب القصة القصيرة، الشهير في بلده.
أما ضعف الاهتمام العربي بترجمة الأدب الروسي وغيره بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فيرتبط أيضاً بالآيديولوجيا، ولكن لأسباب مختلفة عن الأسباب الغربية... لقد ازدهرت ترجمة هذا الأدب ابتداء من الخمسينات مع صعود التيار اليساري، فنقلت إلى العربية أمهات الكتب الروسية الكلاسيكية والمعاصرة، لكن تلك المتوافقة مع توجه هذا التيار. وخارج دور النشر العربية، كانت دار «التقدم» الروسية الرسمية تزخ عشرات الكتب المترجمة للعربية، وقد وظفت لذلك مترجمين أكفاء مثل العراقيين غائب طعمة فرمان، وخيري الضامن والمصري أبو بكر يوسف. وبذلك عرفنا جانبا مهماً وثميناً من الأدب الروسي، وخاصةً المعاصر، ولكن غاب عنا جانب آخر لا يقل أهمية وقيمة، حجبته السياسة والآيديولوجيا، المتواصل عملهما المخرب دائماً للأسف.