د. ياسر عبد العزيز
TT

في هجاء «صحافة اللايف»!

قبل أيام نشرت صحيفة «المصري اليوم» القاهرية كاريكاتيراً يُظهر شاشة هاتف محمول مكتوباً عليها: «أهلاً بكم أعزائي المشاهدين مع الظاهرة التي حيرت العلماء... عم أحمد أبو رجل مسلوخة». نحن نعرف أن الكاريكاتير من الأشكال الصحافية الساخرة، ولكي يحظى بالقدر اللازم من الإعجاب، فإنه يستخدم المبالغة، ويركز على المفارقة التي تُبرز المعنى الكامن وراءه، وحبذا لو كان هذا المعنى ذا دلالة ترتبط بممارسة حادة أو مثيرة للجدل.
ولأنني أتابع الشأن العام المصري بانتظام، وأرصد عادة ما ينعكس منه في المجال الإعلامي، فقد فهمت أن هذا الكاريكاتير يشير بأصابع الاتهام إلى ظاهرة تستفحل راهناً في الوسط الإعلامي العربي والدولي بقوة وشغف كبيرين... إنها ظاهرة «صحافة اللايف» (Live Streaming (Journalism.
لعوامل عديدة - لن تكفي هذه المساحة لذكرها - استفحلت ظاهرة «صحافة اللايف» في ممارساتنا الإعلامية، إلى درجة بات فيها كل مواطن في أي بقعة من العالم قادراً على تقديم «مُنتج صحافي» حي، إذا امتلك هاتفاً محمولاً، وصلة بـ«الإنترنت»، وتسجيلاً في أي من مواقع «التواصل الاجتماعي» الرائجة على الشبكة العنكبوتية.
وبسبب توافر هذه الوسائل عادة لقطاع كبير من الأفراد حول العالم، فإن تلك المواقع باتت تحفل بهذه المنتجات الطازجة والحية والعفوية في آن واحد، إلى حد أنه بات بالإمكان بث فيديوهات عن «عم أحمد أبو رجل مسلوخة»، أو «طريقة إعداد (المقلوبة) في غرفة النوم»، أو «تفاصيل الشجار المنزلي بين أحد مشاهير (السوشيال ميديا) وزوجته»، أو «اعتداء أحد الموظفين العموميين على مواطن في مصلحة حكومية».
ولكي تكتمل تفاصيل هذه الحالة، فإن دراسات علمية غربية أفادت بأن 28 في المائة من مستخدمي «الإنترنت» حول العالم قالوا إنهم شاهدوا «بثاً حياً مباشراً» عبر أحد الوسائط مرة واحدة على الأقل في العالم الماضي 2021. ولمزيد من توضيح أثر توافر مثل هذه التقنية، سيكفي أن نُذّكر بما فعله الشاب اليميني برينتون تارانت في عام 2019، حين بث جريمته الإرهابية التي قتل خلالها 51 شخصاً في مسجدين بنيوزيلندا بثاً حياً عبر «فيسبوك»، وهو البث الذي استمر 17 دقيقة، وشاهده الملايين عبر العالم، وخلق شعوراً عارماً بالصدمة.
ظهر مصطلح «صحافة اللايف» للمرة الأولى، على الأرجح، في عام 2007، حين استخدم جاستن كان، مؤسس موقع «جاستن - تي في» كاميرا مثبتة على رأسه لبث تفاصيل حياته اليومية بشكل مستمر على الشبكة، قبل أن يلتقط صحافي محترف يُدعى تيم بول تلك الفكرة، ويتبنى آلية البث المباشر في عمله.
وفي عام 2013، تمت مأسسة الفكرة، عندما تبنتها مؤسسة «فايس نيوز» الإعلامية كأنموذج أعمال دائم، وبعدها بدأت الأكاديميات ومراكز التدريب تُدرّسها وتُدرّب الناشطين والصحافيين على استخدامها، قبل أن تُصدر أدلة مُحكّمة لشرحها وتبسيطها وتقديم النصائح لإنتاج مواد «صحافة اللايف» بشكل «احترافي»، يمكن أن يجلب عوائد مالية مناسبة لتحقيق الاستدامة والأرباح.
ومع الصعود المذهل لـ«فيسبوك لايف»، تغير وجه الصحافة كما عرفناها على مدى عقود طويلة، وهو التغير الذي شمل فكرة الصحافة ذاتها، والأدوات التي تعتمدها، وأنموذج أعمالها، وهوية من يتصدى للعمل بها وتكوينه واستعداده.
وبينما كان المُنظرون يختلفون حول ما إذا كانت الصحافة تعيش تحت رحمة السلطات أم رجال الأعمال، تم حسم هذا الجدل، لأن الجميع أضحى متفقاً على أنها تعيش تحت رحمة «الشبكات الاجتماعية» وسلطة «الإنترنت».
أما الإشكال، فيكمن ببساطة في أن ذلك التحول أدى إلى الإغراق في انتهاك الخصوصية وتسليعها، كما سبّب حالة من «الإفراط المعلوماتي»، حيث تزيد المعلومات ويقل المعنى، وإضافة إلى ذلك فقد وفر الأجواء المُثلى لشيوع التضليل والمعلومات المُزيفة، فضلاً عن إتاحة الفرص للمتطرفين والعنصريين ودعاة الكراهية والمُحرضين على العنف وشذاذ الآفاق لتحقيق أهدافهم بسهولة ونجاعة قياسيتين.
وأما الكارثة فتتجسد بوضوح في تحول «صحافة اللايف» إلى أحد أكثر نماذج الأعمال الصحافية قابلية لتحقيق الذيوع والتأثير والأرباح، وما يعنيه ذلك من تركيز الضغوط على المؤسسة الإعلامية، والتبشير بغياب آليات إخضاع الأداء الصحافي للتقييم وفق معايير وقيم مرعية.
لقد منحتنا «صحافة اللايف» مزايا فريدة حين وفرت لكل مواطن أو صحافي يمتلك هاتفاً محمولاً فرصة لإيصال صوته ورواية قصته للعالم، كما سهلت كشف الفساد والتعسف وسوء الإدارة، لكنها في ازدهارها المستديم، وهيمنتها الطاغية، وارتباطها بوسائط «التواصل الاجتماعي»، وقدرتها الفائقة والسهلة على تحقيق الأرباح، تنذر بعواقب وخيمة، من بينها تقويض أنموذج أعمال الصحافة كما نعرفها، وإنهاء عهد الصحافي المُحترف.