جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

على نفسها جنتْ براقش

حين تسمع أو تقرأ، في وسائل الإعلام، أن وزير خزانة بريطانياً وقع في أزمة قد تعصف بمستقبله السياسي، وتلا ذلك تصريح صادر من مكتب رئيس الوزراء يؤكد دعمه ووقوفه الشخصي خلف الوزير المأزوم، فمن الأفضل لك ألا تصدق ما سمعت أو قرأت. والأولى بك أن تضع تحته عدة خطوط باللون الأحمر، إن أمكن وتوفر.
يُعرّفُ رئيس الحكومة البريطانية بأنّه الأولُ بين عدة أشخاص متساوين في المرتبة. وزير الخزانة يأتي في المرتبة الثانية من الأهمية. أهميته تنبع من حقيقة أن بيده مفاتيح الخزانة العامة، ووضع السياسة المالية للحكومة، وفقاً للبرنامج الانتخابي. رئيس الحكومة يقيم في رقم 10 داوننغ ستريت، وفي الرقم 11 المجاور يقيم وزير الخزانة. لكن العلاقة بين الجارين تسودها ريبة وخوف من جانب رئيس الحكومة. والسبب هو أن المقيم في الرقم 11 يشكل تهديداً متواصلاً لبقائه في منصبه، وخاصة إذا كان يحظى بشعبية لافتة للانتباه، وكان سجله الشخصي يخلو من الأخطاء المهنية أو الأخلاقية. وبالطبع، هناك استثناءات لتلك العلاقة الارتيابية. وعلى سبيل المثال، السيدة مارغريت ثاتشر، بسبب شعبيتها الهائلة، التي منحتها قوة سياسية لافتة، جعلتها لا مبالية بمن يقيم في البيت المجاور من وزراء خزانة. لكن وضع رئيس الحكومة الحالي مختلف، خاصة بعد عاصفة ما صار يعرف باسم «بارتي غيت» Party gate.
الأزمة الحالية التي حطتْ، فجأة، بكلكلها على ظهر وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك، ذات الصلة بوضعية زوجه القانونية ضرائبياً، انبسطت لها، من دون شك، أسارير المقيمين في 10 داوننغ ستريت، وهم يرون غريمهم في البيت المجاور، يترنح من شدة الضربات، التي تأتيه من كل الاتجاهات، وتقضم سريعاً من حجم شعبيته في استبيانات الرأي العام. وبدلاً من مرتبة ثالث وزراء الحكومة الأكثر شعبية، صار فجأة في ذيل القائمة. رئيس الحكومة بوريس جونسون، في محاولة أخرى لرفع شعبيته، اختار السفر سرّياً إلى كييف لتقديم الدعم والمساندة لرئيسها ولشعبها في الحرب ضد الاجتياح الروسي، وترك لأعضاء فريقه مهام إصدار تصريح باسمه يعبر عن دعمه للوزير المأزوم. والسيد سوناك، من جانبه، وفي محاولة منه لتخفيف الضغوط على زوجه، تدبر أمر ترحيلها مع ابنتيهما من الرقم 11 داوننغ ستريت، إلى منزلهما الخاص، بعيداً عن ضجيج قرية ويستمنستر. وبقي رابضاً في نفس الموقع، على أمل إنقاذ مستقبله السياسي. المؤشرات والتقارير الإعلامية تلتقي جميعها وتسير في اتجاه واحد يؤكد أن السيد سوناك ارتكب خطأ فادحاً، كشف عن مدى سذاجته سياسياً، وبذلك، قدّم سيفاً إلى خصومه للإجهاز عليه.
الأزمة كما كشفتها وسائل الإعلام، في الأسبوع الماضي، أصلها وثيقة مسرّبة إلى صحيفة بريطانية، من مقر رئيس الحكومة، تتعلق بالوضع الضرائبي لحرم الوزير. وهي تتكون من شقّين؛ واحد يتعلق بوضعية حرمه ضرائبياً. فهي رغم أنها مقيمة في المملكة المتحدة، لكنها تحمل قانوناً وضعية غير مقيم. وبذلك تعدّ قانوناً مستثناة من دفع ضرائب في بريطانيا، عما تحصل عليه من أموال سنوياً، تأتيها من خارج الحدود، مما تملكه من أسهم في شركات يملكها والدها. وتدفع ضرائبها في الهند، كونها تحمل الجنسية الهندية. السيد سوناك، وفقاً لتقارير إعلامية، أخفى الأمرَ على رئيس وأعضاء الحكومة، وعلى أعضاء فريقه من المستشارين في الوزارة. الشقُّ الثاني، أن السيد سوناك وحرمه يحملان (غرين كارد) تمنحهما حق الإقامة والعمل في الولايات المتحدة، وأن السيد سوناك لم يتنازل عن تلك البطاقة إلا في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. وكان طوال تلك المدة يدفع ضرائب متوجبة عليه إلى الخزانة الأميركية. فما معنى ذلك؟
من المهم الإشارة إلى ما يقوله خبراء ومختصون، وهو أن السيد سوناك وزوجه لم يخالفا مواد القانون الساري، وأن قرار زوجه، بعد يومين من نشوب الأزمة، بدفع ضرائبها في بريطانيا ابتداءً من الآن، ليس سوى اعتراف منها بالخطأ. كما أن حرصها على الاحتفاظ بوضعية غير المقيم، سوف تنقذها مستقبلاً من دفع ملايين الجنيهات لإدارة الضرائب البريطانية مقابل ما ترثه من ثروة والدها في الهند. أما عن محاججة أصدقاء الوزير بكونه لم يخالف القوانين السارية، فإنهم يعلمون مسبقاً أن نصوص وبنود ومواد القوانين، وأحابيل وصراعات السياسة أمران مختلفان، يعرفها جيداً كل الذين خاضوا، ويخوضون في تلك المياه الموحلة. أضف إلى ذلك أن بقاء السيد سوناك حالياً في منصبه يبدو للمعلقين على وشك النهاية. وأن عودته إلى المقاعد الخلفية في البرلمان قريباً لم تعد مجرد احتمال. وكما جاء إلى ذلك المنصب الرفيع فجأة، ومن دون توقع من أحد، بقرار من رئيس الحكومة، فإن رئيس الحكومة نفسه من سيتولى عقب هذه الفضيحة، بقرار معاكس، وضع حدٍ لطموحاته في تسلم مفاتيح 10 داوننغ ستريت مستقبلاً. وعلى نفسها جنت براقش.