لليمنيين مع الحوار تجارب تاريخية مهمة وناجحة، فخلافات الملوك والتبابعة والأقيال على قضايا السلطة والتوحد في الزمن السبئي والحميري القديم كانت لا تحل إلا عبر التفاهم والحوار، وهو ما كرر نفسه في مراحل مختلفة من العصر الحديث، فبعد قيام ثورة سبتمبر 1962م ضد أسرة آل حميد الدين، استمر اقتتال اليمنيين في حرب أهلية طاحنة بين الجمهوريين والملكيين ثماني سنوات، ورغم شدة الاستقطابات الخارجية (الإقليمية والدولية)، فإنها لم تحل في نهاية المطاف إلا بتوافق وحوار وطني داخلي.
كان الحوار أيضا هو المخرج نفسه الذي حل محل الاقتتال والصراع بين الشمال والجنوب، حتى قاد في العام 1990م إلى قيام دولة الوحدة، فكانت الحرب بين الشطرين لا تهدأ، فإن لم تكن مباشرة بين الجيشين النظاميين، فكانت عبر تجييش وحشد القبائل والجبهات التخريبية من كلا الجانبين، كما حدث مع الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى، التي انتهت مشاكلها بالحوار، كما انتهت من قبلها حرب سبتمبر 1972م باتفاقية القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام، وحرب مارس (آذار) 1979م، التي انتهت هي الأخرى بحوار واتفاق قمة الكويت التاريخية بعد يومين من اندلاعها.
فتجربة اليمنيين مع الحوار تتواصل، وكما كانت المبادرة الخليجية هي المدخل للحوار ونقل السلطة في أزمة «الربيع اليمني» 2011م، كان أيضا حوار «الموفمبيك» الذي انطوى على إخفاقات كبيرة رغم توصله إلى بعض القواعد التي تؤسس للتفاهم والاستقرار، ثم اتفاق «السلم والشراكة الوطنية» الذي كان هو الآخر مدخلا قويا لإدماج الحركة الحوثية وحراك الجنوب السلمي في الحياة السياسية، لولا التراخي والتباطؤ الرسمي في تنفيذ بنوده، الذي قوبل بتهور واندفاع من قبل الحركة الحوثية «أنصار الله»، أوقعهم في شرك المواجهة مع الكل، وضيع عليهم فرصا ذهبية في المشاركة في الحياة السياسية بعيدا عن فرض خياراتهم بقوة النار والسلاح.
اليوم، دخلت الأزمة اليمنية فصلاً جديدًا من فصولها المأساوية بإثارة واستجرار الصراعات المذهبية والطائفية، وأصبح المشهد اليمني أكثر تعقيدا، فاليمنيون يواجهون تدميرًا شاملاً ويقتلون بعضهم بعضًا في المدن والشوارع والأحياء العامة نتيجة انسداد الأفق السياسي، ونتيجة تخليهم عن حوار العقل والمنطق ليقعوا في فخ السلاح من جديد، الأمر الذي لن يقود إلا إلى مزيد من الدمار والخراب لوطن سيخسره الجميع، ما يعني أنه لم يعد أمام اليمنيين من مخرج سوى العودة إلى طاولة الحوار.
والحوار الذي يتم التحضير لانعقاده تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي في الرياض في 17 مايو (أيار) الجاري 2015م، يجب أن يكون حوارا إيجابيا، ويجب أن يفضي إلى نتائج توقف نزيف الدم اليمني، وتلجم تداعيات الحرب، ولن يكون كذلك - برأيي - إلا بأحد خيارين:
الأول: جمع كل الأطراف والمكونات السياسية اليمنية على طاولة الحوار، ليس فقط المساندة للرئيس عبد ربه منصور هادي، وإنما الأطراف المعارضة أيضا، أي أن المؤتمر الشعبي العام (موالين ومعارضين)، والحوثيين «أنصار الله»، والشخصيات الوطنية المستقلة، لا بد أن يكونوا جميعا جزءا من الحوار، وإلا فقد الحوار معناه، وصار معنيا من طرف واحد فقط، وهو ما يمكن أن يفقده أهميته، فالحوار في الحروب والأزمات لا يكون إلا بين متخاصمين، أما المتوافقون، وهم على قدر من الوئام والانسجام فعلى ماذا يلتقون، وعلى ماذا يتحاورون؟!
الثاني: استبعاد كل الأطراف المتسببة في الاقتتال والحرب، وقصر الحوار على القوى والشخصيات الوطنية التي لم تتلوث بالدم، ولم تتسبب في تداعيات الحرب منذ أزمة 2011م وحتى اليوم.
فالحوار الجديد يجب أن يختلف في أسلوبه ومنهجه، وشخوصه ومخرجاته عن القديم من «حوار الموفمبيك»، الذي استمر عشرة أشهر وفشل، ويجب أن يتجاوز سلبياته في التهيئة والتحضير، وأن ينقب عن نوعية المتحاورين، فاليمنيون جديرون بحوار وطني يليق بهم، وهناك من الكفاءات الوطنية ما يغني عن تكرار التجربة الهزيلة في مشاركات الحوارات السابقة، ليتحمل المتحاورون كشخصيات وطنية وكمنظومة متكاملة مسؤولية تنفيذ ما يتوصلون إليه.
المبعوث الجديد للأمين العام للأمم المتحدة السيد إسماعيل ولد الشيخ أحمد، لا بد أن تتاح له فرصة التحرك وهو في بداية تجربته مع المشكلة اليمنية، لمعرفة جوهر ما يجري بالتنسيق مع الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي والبحث في جمع المتناقضات، ليجسد مفهوم الأمانة والحيادية في مهمته كمراقب أممي، ويعمل مع الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي للتهيئة لحوار جاد ومسؤول يخرج اليمن من محنته ويجنب اليمنيين المزيد من القتل والدمار.
ونعتقد بأن أي حوار مسؤول لا بد أن يترافق مع عدد من الخطوات التي تهيئ لانعقاده وتضمن نجاحه في إطار الحفاظ على الوحدة اليمنية، والتي يبدو في مقدمتها:
1 - وقف فوري وكامل للحرب بين القوى والميليشيات الحراكية والقبلية المسلحة في كل المدن والمحافظات اليمنية.
2 - وقف كافة العمليات الحربية (الجوية، والبرية، والبحرية) التي تقوم بها قوات التحالف ضد أهداف على الأراضي اليمنية.
3 - فك الحصار المفروض على الموانئ البرية والبحرية والجوية، والسماح بدخول المواد الإغاثية والإنسانية للشعب اليمني الذي يعاني من أزمة في الوقود، والطاقة، والماء، والغذاء، ومعالجة أوضاع العالقين اليمنيين في الخارج.
ومن هنا، فاليمنيون وحتى من هم على جبهات القتال لا يعلقون آمالهم على انتصارات وهمية في المواجهات، بقدر ما يعلقون الآمال على الحوار النزيه والعادل، بمن فيهم الحوثيون، الذين يعتبرون طرفا أساسيا فيما يجري، فالجميع أصبح يدرك أن الحرب خاسرة، وليس فيها منتصر، بل الكل فيها خاسر ومهزوم، والحوار بالنسبة لليمنيين (مشردين، ونازحين، وعالقين، ومصابين، وذوي قتلى، وضحايا، ومنكوبين) هو وقف الحرب.. فأوقفوا الحرب، وتحاوروا كيفما شئتم ومتى شئتم..!! فهناك أطفال ونساء وشيوخ يقتلون ويموتون.
7:20 دقيقة
TT
الحوار الذي يريده اليمنيون..!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة