حنا صالح
كاتب لبناني
TT

الانتخابات اللبنانية: معركة الرئاسة ومصير البلد!

اتخذت الانتخابات البرلمانية اللبنانية طابعاً مصيرياً، والفترة الفاصلة عن موعد إجرائها في الخامس عشر من مايو (أيار) بات 53 يوماً فقط، وبدءاً من الرابع من أبريل (نيسان)، آخر موعد لتسجيل قوائم المرشحين، سيبرز جانب من المنحى الذي ستتخذه الانتخابات التي تشكّل نتائجها العنصر الأول في انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الخريف المقبل. فهل سيكون متاحاً للبنان أن يستعيد توازنه المفقود نتيجة اختطاف الدولة؟ وهل سيكون ممكناً للدولة أن تسترجع سلطتها الحصرية؟ وهل سيكون ممكناً لهذه الانتخابات أن تكون محطة على طريق التغيير لبلورة بديل سياسي عن التحالف المافياوي المتسلط؟
الأسئلة التي تحيط بالانتخابات كمحطة محورية كثيرة، رغم أن شروطاً مرافقة لهذا الاستحقاق تصب في خدمة «حزب الله» الذي منحته التسوية الرئاسية في عام 2016 التغول على الدولة والتحكم في القرارات والتوجهات. فقد استأثر والفريق المتسلط معه بمقدرات الدولة وإمكاناتها وبالإدارة الفعلية للعملية الانتخابية، إلى قانون الانتخاب النافذ الذي جوّف النسبية وحوّل الانتخابات بفضل الصوت التفضيلي إلى صراعٍ مذهبي. ومن دون أن ننسى السلاح اللاشرعي الموضوع على الطاولة، فهو الخلفية لعملية التهويل والتخوين واعتبار الانتخابات مساوية لحرب يوليو (تموز) عام 2006. والأمر اللافت كذلك أن حسن نصر الله انبرى شخصياً لقيادة هذا الاستحقاق، عارضاً استراتيجية تقضي بالعمل لإنجاح مرشحي الثنائي الطائفي والحلفاء، لأن الهدف «حماية المقاومة الإسلامية»، أي الميليشيا المكلفة من «الحرس الثوري» مهام إقليمية ضمن المشروع الإيراني الذي يستهدف المنطقة وإعادة صياغة دورها!
طموح «حزب الله» المعلن رفع أكثريته من 72 نائباً إلى 86، أي الثلثين، باختراق كل المناطق والشرائح، ما يمكّنه من الحكم بأريحية، وقد يعدّل الدستور ويبدل من طبيعة السلطة للقبض على كل مفاصلها لا سيما الجيش والمصرف المركزي، ويعيّن موالياً له في رئاسة الجمهورية كما في رئاسة الحكومة، وقد يعمد إلى تشريع ميليشيا «الحزب» على غرار «الحشد الشعبي»، وهي تحوّلت إلى جيش رديف حاز أوسع غطاء أمّنه عون منذ عام 2006، والحريري بعد التسوية الرئاسية في عام 2016!
بالتوازي نجح «حزب الله»، ومعه منظومة الحكم، في تعطيل التحقيق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت. من التعطيل القسري الذي فُرِض على الحكومة، إلى دعاوى «الرد» و«كف اليد» ضد القاضي طارق البيطار، وفقدان نصاب هيئة محكمة التمييز، نتيجة تعطيل رئيس الجمهورية للتشكيلات القضائية، لم يُسمح للمحقق العدلي بوضع قراره الاتهامي. أبواق هذا الفريق المدعى عليه بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، كانت قد حذّرت منذ أشهر من أنه من غير المسموح صدور القرار الاتهامي قبل الانتخابات، لأن ذلك سيضع هذا الفريق في مواجهة مع الناخبين بعد اتهامه بالإبادة الجماعية التي نجمت عن جريمة تفجير المرفأ!
وحقق «حزب الله» نجاحاً آخر يسهّل معركته ارتبط بقرار الحريري «تعليق» نشاطه السياسي والانتخابي، فبدا هذا «التعليق» تكملة لنهجه السابق «ربط نزاع»، وهو نهج مكّن «حزب الله» من قضم المؤسسات ومن ثم اقتلاع البلد وتحويله منصة عدوانٍ ضد العرب. ولرؤية البعد الخطير لموقف الحريري، فهو لم يقتصر على «تعليق» دوره، وقد يكون ذلك ضرورياً بعد مسلسل الرهانات الخائبة، بل راح يعمل لأكبر مقاطعة انتخابية بحيث ظهر كأنه في تحالف موضوعي مع نصر الله! ووصل الأمر إلى حدّ قيام بعض أنصاره بالاعتداء على الناشطين في حملة «بيروت تقاوم مَن فجّرها»! في تقليد لتعديات الميليشيات التي نظّمت حملات القمع والاعتداءات التي طالت نشطاء «ثورة تشرين» وكسّرت الخيام ومنعت الاعتصامات. والخطير أن ذلك كله تزامن مع إدانة «حزب الله» من جانب المحكمة الخاصة بجريمة «اغتيال الرئيس رفيق الحريري»، فلم تعد الإدانة محصورة بفرد، فتم الذهاب إلى حرمان اللبنانيين فرصة الاستثمار بقرار المحكمة الدولية لتدفيع «الحزب» الثمن. هنا نفتح مزدوجين للتذكير بأن المحكمة الدولية بإجماع أعضائها، ومن بينهم قاضيان لبنانيان، قالت إن المتهميْن حسن مرعي وحسين عنيسي عضوان في «شبكة سرية تابعة لـ(حزب الله)»، وأكدت في متن الحكم أن مصطفى بدر الدين «تولى تنسيق الشبكة السرية (...) وكان قائداً عسكرياً في (الحزب) خلال عامي 2004 و2005»، فطرح موقف الحريري علامات الاستفهام، رغم أن الحكم أعاد الثقة للمواطنين بأنه يمكن قضائياً ردع الإجرام وإنصاف الضحايا والحاجة المعنوية إلى ذلك كبيرة جداً.
مع استهداف التحقيق العدلي في جريمة تفجير بيروت ومنع صدور القرار الاتهامي، إلى الفضيحة المدوية بغياب أي رد فعل رسمي أو قضائي على إدانة «حزب الله» في جريمة قتل الحريري، هناك تعمد وصد أبوابٍ أساسية عشية الانتخابات، كان من شأن تسليط الاهتمام عليها أن تتحكم نسبياً في تركيبة البرلمان وهويته بما ينعكس على مصير البلد وموقعه ودوره... رغم ذلك هي في التداول الشعبي وإن بنسبٍ متفاوتة!
رغم كل ما تقدم يحيط القلق بمواقف «حزب الله» وتتراجع ثقته عندما يكون شعاره «باقٍ نحمي ونبني» فمن يتهدده؟ ولماذا تراه بحاجة للغة التهديد والوعيد والتخوين، غير دأبه على حضِّ بيئته على الاقتراع، لأنه يعرف أن عمليات قياس الرأي أظهرت ابتعاداً لأوساطٍ من المقترعين، واتجاهاً للعزوف ورغبة عند آخرين بالاقتراع لقوى التغيير إن نجحت في التوحد. يعرف أنه ليس سهلاً إقناع الناس بعدم مسؤوليته عن الانهيار، ويدرك أن ما يواجهه المواطن في عكار يواجهه ابن الجنوب، وأن ترسانة الصواريخ لم تحقق لا حماية الودائع ولا تأمين الدواء، فيما سيفقد الرغيف كما الحليب، وفوق ذلك فإن سياسة اقتلاع البلد وعزله عن محيطه العربي ومحاصرة أهله، جعلت المغتربين الشيعة يقرعون ناقوس الخطر لأن سياسات طهران التي أملاها الحزب على اللبنانيين أكبر من أن يتحملوا أوزارها!
المرحلة دقيقة وصعبة، ويعرف نصر الله أنه ليس سهلاً الإيفاء بتعهد إيصال «الحلفاء» إلى البرلمان، فأكثرهم فئات تهاوت سياسياً وشعبياً وتعاني من انقسامات متسارعة وعزلة شعبية. وفي المقابل لا ينبغي الإقلال مما يتبلور من ناحية قوى التقليد، وبالأخص انخراط فؤاد السنيورة في الاستحقاق الانتخابي لاستنهاض وضعِ «أهل السنة والجماعة» فلا يترك شرائح لليأس أو لقمة سائغة لطارئين من واجهات «حزب الله»، الذي يشاهد ويلمس أن شعار قوى الثورة والتغيير التشرينية باستعادة الدولة المخطوفة بات شعار المرحلة. يرتبط به الإصرار على تحرير الشرعية والذهاب إلى حكومة مستقلة تعيد تكوين السلطة، توازياً مع تطبيق القوانين للمحاسبة واستعادة المال المنهوب لإقامة بديل الدولة – المزرعة ونظام المحاصصة الغنائمي.
ولأن الضباب السياسي كبير والتصويت العقابي وارد، تفجر صراع قضائي مصرفي استنسابي، يستغل قضايا محقّة، لا لتحقيقها، بل لتوسل مناخ متفلت يطيح الانتخابات إن قضت مصالح حامل الأختام!