توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

هل تعرف المفكرة؟

أغلى نصيحة تلقيتها، هي التدوين. فقد حوّلتني من قارئ إلى عاشق للبحث والكتابة. وهذه قصتها:
كنت في الصف الثاني ثانوي حين أخبرت أستاذاً لي بكثرة ما يراودني من أسئلة وأفكار، أريد طرحها للنقاش، لكني لا أتذكرها في الوقت الملائم. قد أكون ماشياً في طريق المدرسة، أو منشغلاً بقراءة كتاب، أو جالساً في الصف، وأحياناً أكون في المزرعة أو المقبرة، فتنبثق في ذهني فكرة لا علاقة لها بالمكان أو الزمان أو الموضوع الذي أنا منشغل به. فأقول لنفسي: سأعود لاحقاً للتفكير في هذا الأمر. لكن هذا «اللاحق» لا يأتي أبداً، لأن تلك الفكرة تتلاشى من ذهني بعد دقائق فحسب، ولا أعود قادراً على استذكارها.
قال الأستاذ مفسراً: إن هذا هو الذي يسمى «شوارد الأفكار». وهي نظير ما أشار إليه المتنبي في شعره المشهور: «أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم». قلت مستدركاً: ما الذي تنصح به إذن؟ فاعتدل الأستاذ في مجلسه وأشار إلى جيب صغير في باطن معطفه، ثم قال فيما يشبه السؤال: هل تعرف هذا الذي يسمونه مفكرة؟ قلت: نعم، أعرف هذا الذي يسمونه مفكرة، وأعرف أن قيمتها 100 فلس. فقال لي: اشترِ واحدة وضعها مع قلم حبر في جيبك، وكلما راودك سؤال أو فكرة، بادر بتسجيل ثلاث كلمات أو أربع، تذكرك به، ولا تؤجله أبداً.
منذ ذلك اليوم التزمت بتسجيل ما يراودني من أفكار ومن أسئلة. ربما أكتب عنها سطراً أو دونه، وحين يأتي المساء أسجل الفكرة بقدر من التفصيل، في دفتر خاص. وقد لاحظت أن الكتابة الثانية تأتي أوسع كثيراً من الفكرة الأولى، بل ربما أثارت أسئلة جديدة.
ثم بدأت أسجل ملخصات للمقالات والكتب التي أقرأها، والمحاضرات التي أستمع إليها، وأسجل أحياناً المعلومات التي أشعر بأنها ذات قيمة، وأضيف إلى هذه وتلك ما يعن لي من ملاحظات على الأفكار وأصحابها. ومع مرور الأيام تحوّلت هذه إلى عادة ثابتة، فامتلأ الدفتر بعد الدفتر، وصرت أعود إليها لاستذكار الأسئلة والقراءات السابقة. وحين بدأت في استعمال الكومبيوتر، شرعت في الكتابة عليه بدل الدفاتر.
يسألني بعض الأصدقاء أحياناً عن الآراء التي أستشهد بها والكتّاب الذين أذكرهم، وهم يتخيلون أن ذاكرتي حديدية، أو أنني أقضي اليوم كله في القراءة. الواقع أن سلاحي الوحيد هو تلك الملخصات والمدونات، التي ترجع إلى سنين طويلة، والتي كتبت عشرات المقالات والأبحاث اعتماداً عليها.
لو سألتني عن أفضل شيء فعلته لنفسي، لأخبرتك أنه التدريب على الكتابة وممارسة الكتابة، لأنها شجعتني على اقتحام عوالم لم أتخيل وجودها قبلئذ، وساعدتني على تنظيم أفكاري. كما كشفت لي عن ضعف معرفتي في كثير من الحقول، حتى تلك التي أدّعي أنني ركزت عليها وتخصصت فيها. الكتابة التي تشعرني بجمال الحياة وبالسعادة، ثمرة من ثمرات التدوين. ولهذا أعد نصيحة الأستاذ تلك، أغلى ما تلقيت في حياتي العملية.
وإذا كان لي من نصيحة أقدمها لأصدقائي القراء ولعامة الشباب في بلدنا وغيره، فهي التدوين: تدوين الأفكار التي تراودك والأسئلة التي تولدها تأملاتك في العالم والأشياء، وملاحظاتك على ما تراه وما تقرأه وما تسمعه. إذا بدأتم في التدوين فسوف يقودكم هذا بشكل طبيعي إلى نشر أفكاركم، والانضمام إلى قبيلة صنّاع العلم ونقاده، وأحسب أن كثيراً منكم يرغب في هذا.