فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

بين موقف وموقف... عقول عربية منشطرة

في كل منعطف، سواء أكان عربياً أم أجنبياً، تبرز أمامنا حقيقة صارخة لا نريد أن نعترف بها، أو نتوقف أمامها قليلاً لنتفحص مظاهرها، وتجلياتها، والأهم أسبابها، ونعني بها عدم امتلاكنا منظومة فكرية وأخلاقية منسجمة مع نفسها، تحكم أفعالنا وآراءنا، وتقيس كل القضايا بمقياس واحد، لا يطول هنا ويقصر هناك، أو يحتجب تماماً في موقف، ويرتفع زنبكه في موقف آخر، إلى درجة نشك فيها أن أصحاب مثل هذه المواقف المتناقضة، التي لا يمكن التوفيق بينها مهما بررنا وبحثنا عن أعذار لها، هم الشخصيات نفسها. إننا أمام حالة من الانفصام الفكري والأخلاقي والنفسي، تقترب من درجة الانفصام المرضي، ولا يمكننا أن نطلق عليها اسماً آخر. وهي ليست حالات منفردة يمكن تجاهلها، بل تشكل تقريباً اتجاهاً عاماً يبتلع تلك الفئة القليلة، التي تتبنى مواقف سليمة انطلاقاً من منظومتها الفكرية والأخلاقية. ونعني بالمواقف السليمة هنا الوقوف بالمطلق ضد الظلم والشر والاضطهاد والقمع أينما كان وحيثما كان، والانتصار بالمطلق للإنسان أينما كان وحيثما كان، ومهما كان دينه ومذهبه وطائفته ودينه وفكره.
حالات الانفصام هذه لا نلمسها عند عموم الناس العاديين «المعذورين»، بل عندما يفترض أنهم طليعة الناس، وهي المصيبة الأكبر. غزو الكويت، على سبيل المثال، ليس بعيداً عن أذهاننا، وما تزال هناك غصة كبيرة في نفوس أهله من مواقف هللت لذلك الاحتلال البشع من قبل مثقفين وقادة بلدهم محتل، وشعبهم مشرد، ولا نعدم أمثلة كتاب خبروا جيداً الاضطهاد والقمع، ودفعوا ثمناً باهظاً نتيجة وقوفهم ضد ديكتاتور بلادهم، ومع ذلك يمجدون ديكتاتوراً في بلد آخر، لمجرد أنه على عداء مع ديكتاتور «هم». نتذكر ذلك، ونحن نرى الآن كيف أن مثل هذه المواقف تعيد إنتاج نفسها، وتطل برؤوسها عبر تنظيرات لا تدل سوى على خواء فكري مريع.
موقف قسم من المثقفين العرب، الذين يعتبرون أنفسهم يساريين، مما يحدث من مأساة إنسانية كبرى في أوكرانيا، دليل صارخ آخر على الغياب المفجع لمنظومة أخلاقية وفكرية منسجمة عند هؤلاء، إن لم تدل بشكل سافر وصريح على الغياب المطلق للأخلاق والفكر. هناك شعب يقتلع، وبلد على وشك الإمحاء من الخريطة، ومع ذلك يرى البعض أن حرب بوتين هي حرب ضد الإمبريالية من بوابة أوكرانيا. وينسى هؤلاء، نتيجة الحشوة الكبيرة للآيديولوجيا المضلِلة في رؤوسهم، أن ساكن الكرملين ليس لينين، وأن روسيا أصبحت بلداً رأسمالياً منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، الذي لم يكن سوى اتحاد طوعي بين جمهوريات حرة، بل إن لينين نفسه أسس كيانات تتمتع بحكم ذاتي واسع، حسب مبدأ تقرير المصير، وهذا ما اعتبره بوتين خطأ في خطابه الأخير، وانتقد لينين عليه لتبرير غزوه لأوكرانيا. أي أساس آيديولوجي، إذن، يملكه هؤلاء المدافعون عن محاولة بوتين إمحاء بلد عريق وإبادة شعب كامل؟ وأي يسارية هذه، التي تلتقي مع أبشع ما عرفته البشرية من نازية وعنصرية؟ إن بلداً يضطهد بلداً آخر لا يمكن أن يكون بلداً حراً، هذا ما قاله فريدريك إنجلز، ويبدو أن البعض ينسى ذلك.
ولكن لماذا تغيب المنظومة الفكرية والأخلاقية المنسجمة مع ذاتها؟ هل هناك قصور في الوعي؟ في المعرفة؟ أم أن هناك وعياً زائفاً خلقته الآيديولوجيا التي تضع الفكرة فوق الإنسان؟ أم أن القمع العنيف الذي عرفته مجتمعاتنا قاد إلى تشويه هائل ليس فقط في رؤوسنا وطرائق تفكيرنا، بل حتى في حسنا الأخلاقي؟ الإجابة تحتاج إلى مجلدات.