بدر بن عبد الله بن فرحان
وزير الثقافة السعودي
TT

وراء «الشاشة الكبيرة»... أكثر من «أفلام»

في إحدى القرى بمنطقة تبوك (شمال غربي المملكة العربية السعودية)، بدا عمر (14 عاماً) متقناً لدوره المهم ضمن نجوم أحد الأفلام العالمية التي صُورت على مقربة من قريته. فالشاب اليافع الذي لم يسبق له التمثيل أو حضور أي نوع من فعاليات تصوير الأفلام أو المسلسلات، وجد شغفه أخيراً عندما أتى منتجو الفيلم الضخم إلى المنطقة، ولفت أنظار مخرج العمل ومساعديه صدفة، ليكتشفوا فيه موهبة تفرض نفسها، ما دفعه ليكون جنباً إلى جنب مع نجوم الصف الأول العالميين.
لم يفتح الفيلم، الذي وجد منتجوه في تبوك ونيوم المكان الأمثل لموقع تصويره في أرضها الغنية بالتنوع الجغرافي والطبيعي والثقافي، الفرصة لـ650 سعودياً وسعودية شاركوا كممثلين إضافيين فحسب، بل شرع الأبواب لـعشرات التقنيين والفنيين السعوديين لخوض غمار التجربة، والاستفادة من الخبرات الدولية، فيما مثل السعوديون أكثر من 20% من طاقم الإنتاج الدائم من بداية المشروع وحتى نهايته. كما حرك الفيلم السوق الاقتصادية، حيث استفادت أكثر من 90 شركة سعودية، وأكثر من 80 متدرباً دائماً، و80 ألف ليلة حجزت في غرف فنادق منطقة تبوك وغيرها، خلال فترة التصوير.
ما سبقت الإشارة إليه ينحصر فقط في فيلم واحد، فيما يعمل منتجون دوليون على إنتاج عدة أفلام عالمية في جدة ونيوم والعلا والرياض ومناطق متعددة من المملكة في القريب العاجل، ما يشي بفرص ضخمة يحملها القطاع الواعد في بلد يضم مئات المواقع المذهلة للتصوير، وقدرات بشرية موهوبة وشغوفة، وثقافة يحتل الترحيب بالضيوف سويداء قلبها، وشعباً متذوقاً للسينما، وتنوعاً فريداً وغنياً لكافة تشكيلاتها الطبيعية والفنية.
وفي فيلم عالمي آخر «هوليوودي» يجري تصويره في 24 موقعاً بين العلا وجدة، وجد أكثر من 100 سعودي وسعودية الفرصة للمشاركة كممثلين إضافيين، فيما يمثل السعوديون 10 في المائة من طاقم الإنتاج الدائم لمشروع تصوير الفيلم، ومشاركة شركة سعودية وأخرى بريطانية مسجلة في السعودية في عملية الإنتاج، إضافة إلى مشاركة واستضافة أكثر من 4 نجوم عالميين قاموا بتصوير مشاهدهم في المملكة لعدة أشهر زاروا خلالها العديد من الفعاليات. أجرى الفيلمان فقط خلال الفترة الماضية أكثر من 1000 مقابلة لتجارب الأداء، ما كشف الستار عن مواهب سعودية ينتظرها مستقبل كبير في الصناعة.
كل تلك المكتسبات ونقاط الجذب ومكامن القوة لدينا، أعدنا اكتشافها عبر رؤية ولي العهد النهضوية والتنموية الضخمة. رؤية تعيد اكتشاف تفاصيلنا، وتُعزز ثقافتنا وهويتنا الوطنية، وتضع بلادنا في الموقع الذي يليق بها في مصاف الدول في المجالات كافة.
وبالعودة إلى النشاط الكثيف لفرق الإنتاج والممثلين والمبدعين في مناطق متنوعة في السعودية، فإن الأثر الفني في صناعة القطاع يبدو ظاهراً وجلياً بمجرد بدء العمل على تصوير أفلام دولية في بلادنا، بيد أن هناك جوانب أخرى تنعكس إيجاباً على قطاعات عدة تكمن خارج دائرة الضوء، كمزودي خدمات الإنتاج السينمائي ومعدات التصوير واكتشاف المواهب والوظائف الحرة، والإرشاد السياحي والفندقة والمواقع السياحية التراثية والحديثة والمطاعم والفعاليات والمواسم الترفيهية، والاستشارات القانونية، والخدمات المالية والمصرفية، إلى جانب قطاعات الخدمات اللوجيستية كالشحن والنقل، إضافة إلى كل ما ينفق داخل المملكة على كافة القطاعات خلال عمليات التصوير والإنتاج.
وسينمائياً، فضل العديد من المخرجين مواقع سعودية لتصوير أفلامهم لتنوع خياراتها الطبيعية والثقافية والحضرية، ولثراء تجاربهم في تلك البقاع الفاتنة، فعندما تولي وجهك شمال البلاد الطيبة، ستذهلك التفاصيل في منطقة «الحجر» بالعلا، وجبال الرمال الحمراء، وحصن «النزار» وسوق «الشريف» في خيبر، وحطام سفينة «جورجيوس جي» في شاطئ حقل، وسواحلها الفاتنة، ووادي الديسة في تبوك، ووادي «طيب اسم» بمقنا، وجبال «الرمال الصفراء» في جدة، وقلعة «مارد» ومعالم الحضارات البشرية التاريخية في الجوف، وإنْ اتجهت شرقاً ستصافح عيناك واحة الأحساء، أكبر واحة نخيل في العالم، وستمر بجمال سوق القيصرية بالهفوف، وفندق الكوت وميناء العقير والصحراء البيضاء في سواحلنا الشرقية، ورمال الدهناء والربع الخالي، أكبر صحراء ممتدة في العالم، وغرباً ستذهلك سواحل البحر الأحمر الفاتنة، والبلدان التاريخية في جدة وضباء والوجه وينبع، فيما ينتظر عشاق التنوع الجغرافي جنوباً، وادي لجب في جازان ومناطقها الجبلية الرائعة المشهورة بزراعة أجود أنواع البن في العالم، وتجذبك جبال عسير الرائعة بقراها وثقافتها الأصيلة، والجزر الجميلة بمحاذاة الجبال الشاهقة، كما تعطي المناطق وسط المملكة تغذية بصرية غير مسبوقة لمحبي الهضاب في القدية وجبل الحامض ورمال الصحراء الذهبية، إضافة إلى تعدد مساحات ومعالم مدنها وقراها، وتعددية ثقافاتها الخاصة وبنيتها التحتية الأساسية... كل ذلك وأكثر في بلادنا التي نجزم بقدرة مواقعها وتنوعها على جذب صناعة الأفلام من كل أرجاء العالم.
وبالإضافة إلى نقاط الجذب القوية في المواقع السعودية، فقد أعلنت هيئة الأفلام السعودية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن نية إطلاق حزمة حوافز محلية ودولية لاستقطاب الإنتاج السينمائي السعودي والعالمي للتصوير داخل المملكة، وقد تصل نسبة الاسترجاع النقدي إلى 40%.
صحيح أن التمكين الضخم الذي يشهده قطاع صناعة الأفلام في المملكة، وبدعم غير مسبوق من قائد رؤية بلادنا المستقبلية ولي العهد، بدأ بخطوات مدروسة ودقيقة جاءت نتيجة أبحاث كبيرة للسوق السعودية والقدرات المحلية، بدءاً من عودة دور السينما إلى البلاد بعد قطيعة استمرت لعقود، وانطلاق مسابقات بجوائز ضخمة لتمكين صناع الأفلام، ودعم إنتاجها ومهرجانات سينمائية مهمة في السعودية، مروراً بتأسيس هيئة حكومية معنية بقطاع الأفلام واعتماد استراتيجيتها، إلا أن الاحتكاك بالميدان والدخول إلى مطابخ الإنتاج كفيلان بمنح الكثير من الخبرة والتطوير.
واستحضر هنا نتائج دراسات مكثفة عمل عليها متخصصون محليون ودوليون، عن السوق السعودية وبناء القدرات، والتي كشفت عن طلب كبير يتجاوز العرض في كثير من القطاعات الثقافية، والأكيد أن قطاع الأفلام واحد من تلك الصناعات التي بدت متعطشة للمتخصصين والقدرات البشرية المؤهلة، في بلد مليء بالمواهب والشغوفين الذين ينتظرون الفرصة ليغتنموها. أمامنا مستقبل مبهر بدعم قيادتنا وبفاعلية وشغف قدراتنا البشرية القادرة على صنع المستحيل.