علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

رجاء النقاش وجهاً لوجه مع محمد محمد حسين

كتب رجاء النقاش في مجلة «الدوحة»، بتاريخ 1 مايو (أيار) 1979، موضوعاً بعنوان «هل نحن على أبواب حرب أهلية في ميدان الفكر والثقافة؟!»، وأراد بهذا الموضوع الذي كتبه أن يضع ردّه «محاكمة ظالمة لطه حسين» على كتاب الدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب «طه حسين مفكراً»، المنشور في العدد السابق من هذه المجلة، في إطار قضية عامة وقضية تاريخية، هي علاقة الأديب والمثقف بالسياسة.
في التاريخ العربي القديم ذكر من كبار الأدباء الذين فقدوا حياتهم بسبب مواقفهم وآرائهم السياسية، ابن المقفع وبشار بن برد والمتنبي.
وقال في الأخير «وإذا كان الرأي السائد هو أن المتنبي قد قُتل لسبب غير سياسي، فمن المؤكد أن المتنبي قد تعقب في حياته لأسباب مختلفة على رأسها السياسة؛ فقد كان صاحب رأي سياسي وكان يريد تنفيذ هذا الرأي بأن يصل هو نفسه إلى السلطة، مما ملأ حياته بالمتاعب والمنغصات الكثيرة».
وفي التاريخ المصري الحديث استشهد بما تعرض له المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في عهد محمد علي باشا، وما تعرض له النهضوي الأول رفاعة رافع الطهطاوي في عهد حفيده عباس الأول.
العبرة الرئيسية التي أراد رجاء النقاش أن يستخلصها من هذين المثالين «أن السياسة كانت تقود الكاتب والمفكر دائماً إلى مشاكل ومتاعب عنيفة إلى أبعد حد».
يواصل رجاء النقاش حديثه، فيقول «وهذه الحقيقة كانت واضحة كل الوضوح في وجدان الكثيرين من الأدباء والمفكرين، حيث كانوا يشهدون باستمرار أن الصدام مع السلطة السياسية يمكن أن يؤدي بالأديب إلى الانكسار والضياع، لا من الناحية الشخصية فقط، ولكن من ناحية الإنتاج والتأثير الفكري والأدبي».
ثم استشهد بحالتي عباس محمود العقاد وطه حسين في عهد وزارة إسماعيل صدقي الأولى، فالأول تعرض للسجن عام 1930، والآخر تعرض عام 1932، للطرد من الجامعة؛ مما أوقعه في أزمة مالية خانقة.
في المعضلة التي استعرضها عدّد الأحوال التي يكون فيها المثقف، فقال «وقد تأتي لحظات يستطيع فيها الكاتب الكبير أن يتحمل ويقاوم المنغصات والآلام، وقد تأتي لحظات أخرى يعجز فيها عن الاحتمال بسبب الخوف أو الجبن أو المرض أو أي ظروف أخرى. وقد تأتي لحظات يفهم فيها الكاتب الأمور فهماً صحيحاً ويعبر عنها التعبير السليم المناسب. وقد تأتي لحظات أخرى يخطئ فيها الكاتب ويتخذ مواقف غير سليمة، ويعبّر عن الرأي الخاطئ غير الصحيح».
يسأل رجاء النقاش بعدها: هل نحرق الكاتب الكبير بكل تراثه وإنتاجه إذا أخطأ يوماً في رأي أو موقف؟ هل نحكم عليه بالإعدام ونطالب بالقضاء عليه وعلى كل كلمة كتبها بسبب هذا الرأي الخاطئ أو الموقف غير الصحيح؟
يجيب عن سؤاليه هذين: بأن «الطريق الصحيح هو أن نقيس حجم أخطاء الكاتب، بحجم آثاره وإنتاجه الكلي، فإن وجدنا الأخطاء أقل حجماً من الإنجازات الفكرية الأخرى، فإن علينا أن ننظر إلى هذه الأخطاء نظرة الطبيب إلى المريض، يحاول أن يعالجه مما يعانيه، فالطبيب الناجح لا يغضب عندما يرى المرض في جسد الإنسان. والطبيب الناجح لا يدعو إلى قتل الإنسان لأنه مريض حتى لو كان المرض نتيجة الأخطاء ارتكبها المريض نفسه. كذلك المجتمع المتحضر لا يقتل المفكر أو الأديب بسبب أخطاء وقع فيها هنا وهناك».
المثال الذي اختاره في الثقافة الغربية، هو مثال الشاعر الأميركي إزرا باوند الذي وقف مع الفاشية وأيدها ضد الرأي العام الحر في بلاده وفي العالم كله. وقال في هذا المثال «لم تمر أخطاء إزرا باوند بسلام، بل عوقب عليها. ولكن العقاب لم يمس أدبه العظيم».
يخلص من وضع رده على كتاب عبد المجيد عبد السلام المحتسب «طه حسين مفكراً» في إطار قضية علاقة الأديب والمثقف بالسياسة، إلى شيء أسماه المواقف المؤقتة.
المواقف المؤقتة في شرحه لها هي «أننا إذا نُظر للأمر من زاوية أخرى فسوف نجد أن بعض الأدباء والكتاب والمفكرين، بل والزعماء الكبار قد اتخذوا مواقف مؤقتة تبدو خاطئة، ولكنهم كانوا يتجهون إليها عن وعي لتحقيق هدف عام سليم. أي أنهم كانوا يلجأون إلى وسائل، من المؤكد أننا نعترض عليها عندما ننظر إليها في ذاتها، ولكن الهدف العام لهذه المواقف كان سليماً ومقبولاً».
وكان مثالاه في اتخاذ المواقف المؤقتة، موقف الشيخ محمد عبده من اللورد كرومر، وموقف طه حسين بعد توليه منصب وزارة المعارف عام 1950.
وبما أني سأقف عند المثال الأول، وسأمرّ على المثال الثاني مروراً سريعاً، سأبدأ مما قاله عن الموقف الثاني.
يقول عنه «في ذكرى الاحتفال بجامعة القاهرة، وكان اسمها آنذاك جامعة فؤاد، حضر الملك فاروق هذا الاحتفال، ووقف طه حسين كوزير للمعارف فألقى خطاباً مدح فيه الملك فاروق وحيّاه. كذلك مدح طه حسين فاروقاً في مناسبات أخرى أثناء توليه لوزارة المعارف. ثم قامت ثورة 1952، وهنا ظهر من يكتب موجهاً الكلام لطه حسين فيقول له: إنك كنت مفكراً خائناً لرسالتك، وكاتباً منحرفاً، ولا تستحق أي مكانة في تاريخنا الفكري لأنك مدحت الملك فاروق وقبّلت يده. وحكاية تقبيل اليد هذه إضافة لا أصل لها من الواقع، ولكن الذين أرادوا اتهام طه حسين رأوا أن يضيفوا للتهمة ما يجعلها بالغة السوء والانحراف.
وأثيرت ضجة كبرى حول هذا الموضوع، كان المقصود بها تشويه طه حسين وتحطيمه نهائياً، وطالب البعض بمنع تداول كتبه، لأن صاحبها مدح الملك فاروق في إحدى خطبه».
وردّاً على هذا الاتهام نقل فقرات من مقال لطه حسين نشرته له مجلة «روزاليوسف» في 29 مارس (آذار) 1954، وقد تضمنت هذه الفقرات ردّاً مفحماً ومقنعاً إلى أبعد حد. وأظهرته من غير أن يقول ذلك طه حسين، بأنه محض مزايدة سياسية وانتهازية ثورية رخيصة.
ويقول رجاء النقاش عن الموقف الثاني، وهو يدافع عن الشيخ محمد عبده «... ومع ذلك فهناك من بين الباحثين والمؤرخين، من يتهم محمد عبده اليوم بالخيانة لأمته، والخروج على الخط الديني الوطني السليم، لأنه تعاون مع اللورد كرومر. صحيح أن التعاون مع كرومر – في حد ذاته – أمر مستنكر ومرفوض، ولكن محمد عبده استغل هذه الصلة مع كرومر لتحقيق جزء من برنامجه الإصلاحي الكبير، ولم يكن أمام محمد عبده طريق آخر غير هذا الطريق يتمكن فيه من خدمة بلاده في تلك الظروف الصعبة القاسية التي كانت مصر تعيشها في أوائل هذا القرن».
وبعدها كتب فقرة شدد فيها على استنكار علاقة محمد عبده بكرومر مع ذكر مآثره على مصر وعلى الأمتين العربية والإسلامية، وانتهى فيها إلى أن الوسيلة التي لجأ محمد عبده إليها كانت سيئة، لكن الهدف منها كان شريفاً وسليماً.
بعد هذه الفقرة انتقل من القضية السياسية التي اتهم فيها باحث ومؤرخ لم يسمّه، محمد عبده بالخيانة لأمته، إلى قضية فكرية عند محمد عبده. فقال «ولكي يكون حديثي مدعماً بالنصوص، فإني أنقل هنا ما قاله أستاذ وعالم كبير هو الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، حيث يقول:
إن الدعوة التي نادى بها محمد عبده وتلاميذه، وهي الدعوة إلى الملاءمة بين الإسلام وبين الحياة في القرن العشرين، مترتبة على ما يردده الغربيون من أن الإسلام دين متخلف لا يناسب العصر الحديث. فهي محاولة للرد على هذا الزعم، ولكنها في الوقت نفسه تسليم به. وأخطر ما تنطوي عليه هذه الدعوة هي تفتيت الوحدة الإسلامية؛ إذ يصبح الإسلام مختلفاً في الجيل الواحد باختلاف الأقاليم. فنقول إسلام مصري وإسلام عراقي، ثم يصبح كالمعاجم والموسوعات الأوروبية التي تتجدد طبعاتها بين حين وحين، لأن الناس إذا سلموا بمبدأ قبول الدين للتطور، ذهب كل منهم في ذلك مذهباً يخالف الآخر، بحسب ما يتلاءم مع ظروف بيئته، ثم لم يقفوا في هذا التطور عند حد. وهذا هو ما يهدف إليه الاستعمار الذي يريد أن يأمن جانب الدول الإسلامية، ويقضي قضاء مبرما على كل احتمال لاجتماع كلمتها ضده».
يرد رجاء النقاش على تهمة محمد محمد حسين الفكرية لمحمد عبده وتلاميذه، مكرراً وصفه بالعالم الكبير، بأن «ما يقوله الدكتور حسين غير سليم على الإطلاق، فدعوى محمد عبده تقوم على أساس أن الدنيا تتغير تغيرات كبرى، وأن باب الاجتهاد في الإسلام غير مقفول، وأن الإسلام لا بد أن يكون له موقف من التغيرات والتطورات الحديثة. ولذلك فإن الاستنتاجات التي خرج بها الدكتور حسين من الدعوى الإصلاحية لمحمد عبده هي استنتاجات في غير موضعها».
الكلام السابق الذي عرض رجاء النقاش فيه تهمة محمد محمد حسين الفكرية وناقشها، هو ما عنيته في مقالي «أنور الجندي... القفز من مركب (الإخوان) والعودة إليه ثانية» باللقاء الثالث بينهما، والذي صرّح رجاء النقاش فيه باسم محمد محمد حسين.
ومع أنه صرّح باسمه في الكلام السابق، فإنه لم يصرّح به في الكلام الذي سبقه حين قال «فهناك من بين الباحثين والمؤرخين، من يتهم محمد عبده اليوم بالخيانة لأمته»، فالذي لم يقرأ كتابي محمد محمد حسين «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» و«الإسلام والحضارة الغربية» لن يعرف أنه هو المقصود.
المحيّر أنه صرح باسم محمد محمد حسين في التهمة الفكرية التي وجهها لدعوة محمد عبده الدينية، ولم يصرّح باسمه في تهمة الخيانة السياسية التي وجهها له رغم أنه في كتابه الذي اقتبس رجاء النقاش منه ألّح على إبرازها في الجزء الأول والجزء الثاني منه.
هل فعل ذلك بدافع التأدّب مع محمد محمد حسين؛ إذ اعتقد أن التصريح باسمه في توجيه تهمة الخيانة السياسية لمحمد عبده، وهي التهمة الأسوأ من التهمة الثانية، سيكون تشنيعاً عليه وتشهيراً به في مجتمع الأدباء والمثقفين العرب؟!
طرح رجاء النقاش ما قاله محمد محمد حسين عن القضية السياسية والقضية الفكرية عند محمد عبده في مقاله «هل نحن على أبواب حرب أهلية في ميدان الفكر والثقافة؟»، أرى أن سببه هو أن ما قرأه في تمهيد عبد المجيد عبد السلام المحتسب لكتابه المعنون بـ«حزب الشيخ محمد عبده: أحمد لطفي السيد أستاذ طه حسين وزميله» ذكّره بما جاء في كتاب «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» عن محمد عبده.
ومع أن ذلك التمهيد ذكّره بهذا الكتاب، فإنه لم يربط بين الثقافة الاتهامية فيه وبين الثقافة الاتهامية عند تابعه المحتسب في كتابه «طه حسين مفكراً». لأن الأخير قد تعمّد أن يضلل قارئه عن معرفة مصدره فيما قاله عن محمد عبده ومدرسته وعن طه حسين. فهو لم يستشهد بذلك الكتاب سوى مرة واحدة، في موضع يتعلق برفض لطفي السيد عام 1938، لفكرة الجامعة العربية.
ولو كان رجاء النقاش كان قد قرأ كتاب محمد محمد حسين «الإسلام والحضارة الغربية»، لعرف أن عنوان ذلك التمهيد «حزب الشيخ محمد عبده... » منتزع من استشهاد محمد محمد حسين في هذا الكتاب بالفقرة الثالثة من تقرير كرومر الذي يقول فيه «وهذه الجماعة الصغيرة العدد، والآخذة في الازدياد، هي الحزب الذي أسميه على سبيل الاختصار بأتباع المفتي الأخير الشيخ محمد عبده».
وقد أوضح محمد محمد حسين في الهامش، أن «كرومر يعني بهذه الجماعة الحزب الذي ظهر بعد كتابة هذا التقرير بعام واحد، وسُمي حزب الأمة»، وكان في المتن قد أشار إلى أن التقرير يعود تاريخه إلى عام 1906.
ومن حق غازي التوبة علينا أن نسجل له إلى أنه في اتهاماته لمحمد عبده وطه حسين في كتابه «الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم»، كان قد سبق المحتسب بما يدنو من عشر سنوات، بالتعمية على مصدرهما، محمد محمد حسين!
وللحديث بقية...