د. عزت سعد
TT

التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا... تداعيات وارتدادات أولية

على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، فشلت الاتصالات والجهود الدبلوماسية المكثفة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، سواء على المستوى الثنائي فيما بين الرئيس بوتين ونظرائه الأميركي والفرنسي والألماني، أو في الأطر المتعددة الأطراف في مجلس «روسيا - الناتو» أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فيينا، في تحقيق أي تقدم بشأن طلبات موسكو التفاوض على معاهدتين تعيدان التوازن الأمني وهيكليته في أوروبا، وتقضي بمنع أي توسع للحلف شرقاً، ووضع حد للنشاطات العسكرية الغربية في محيط روسيا، بما في ذلك مكونات الدفاع الصاروخي الأميركي في رومانيا وبولندا والقواعد الجوية التي يمكن أن تؤوي منظومات الدفاع الصاروخي التي يمكن تجهيزها للصواريخ المتوسطة المدى. ومن المهم إدراك أن مطالب موسكو من واشنطن وبروكسل على هذا النحو تمثل الأهداف الاستراتيجية للسياسة الأمنية الروسية في أوروبا منذ عقود، من خلال إعادة صياغة الأمن في أوروبا - خصوصاً في الشرق – كعلاقة تعاقدية بين روسيا من ناحية والولايات المتحدة والحلف من ناحية أخرى.
وقد هدد المسؤولون الروس بأنه إذا فشلت المحادثات فسوف تتخذ موسكو إجراءات «عسكرية تقنية» وحتى «عسكرية»، وهو ما حدث بالفعل في 24 فبراير (شباط) الماضي عندما أعلن الرئيس بوتين عن شن عملية عسكرية «خاصة»، وسبق الإعلان خطاب مطول في 21 فبراير الماضي، بدا فيه بوتين كمن يقدم عرضاً لنظيره الأوكراني للهرب. وفهم الجميع في الغرب الخطاب على هذا النحو، وهو ما دفع قادة بعض الدول الأوروبية – ومنهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون – إلى الإعلان عن الاستعداد لمنح الرئيس زيلينسكي حق اللجوء. وبالنسبة إلى موسكو، فقد نظرت إلى النظام الحاكم في كييف منذ عام 2014 على أنه نظام غير شرعي جاء بانقلاب، وأنه لا ينفّذ اتفاقات مينسك التي تعطي للأقليات الروسية في الإقليمين الانفصاليين حقوقاً يجب ضمان حمايتها. ويعني ذلك أن الاعتراف الروسي بهذا النظام مرهون بتنفيذ هذه الاتفاقات. ولما لم تستطع روسيا تحقيق هذه النتيجة بالوسائل الدبلوماسية، فقد صعّدت من حشدها العسكري وتدخلت عسكرياً في النهاية. ويمكن القول بأن هذا التدخل وضع نهاية لاتفاقات مينسك، كما أغلق النقاش أمام مطالب روسيا الأساسية، على الأقل في الوقت الحالي. ومن المنظور الغربي باتت وحدة الأراضي الأوكرانية أولوية الأولويات الآن.
والواقع أن الاستراتيجية بعيدة المدي التي يسعى بوتين لانتهاجها – بخلاف إسقاط نظام زيلينسكي - لا تزال غير واضحة المعالم. وبالمثل يصعب القول إن هناك استراتيجية غربية متماسكة للرد على هذا الوضع الجديد الذي فرضه التدخل العسكري الروسي، باستثناء مواصلة إرسال الأسلحة والمعدات العسكرية والمساعدات الإنسانية للنظام في أوكرانيا وفرض المزيد من العقوبات على روسيا.
أما بالنسبة إلى تداعيات العملية العسكرية، فيؤكد بعض الخبراء الروس أن اعتراف موسكو بالإقليمين الانفصاليين شرق أوكرانيا فيه «تجاوزات بارتدادات سلبية غير محسوبة العواقب». ويشار في ذلك إلى أن خطوة كهذه لن تعزز أمن روسيا، بل على العكس سوف تؤجج المواجهة في أوروبا وفي مختلف أنحاء العالم وتزيد من خطر الاصطدام العسكري المباشر الذي قد يؤدي إلى حرب نووية. وتضيف بعض التقديرات في هذا السياق أنه ينبغي على موسكو أن تجتهد في إيجاد آليات أمنية بديلة للبلدان المرشحة للانضمام لعضوية الناتو مثل أوكرانيا وجورجيا، وذلك للحد من اهتمامها بعضوية حلف شمال الأطلسي التي تسعى إليها بشدة.
وارتباطاً بما تقدم يذهب بعض المحللين إلى القول بأن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا قد «بعث حلف شمال الأطلسي من تحت الرماد». فمنذ بدء عملية التدخل تبدو الولايات المتحدة والحلف كمدافعين أساسيين عن أوكرانيا، ولم يعد هناك مجال للحديث عن الاستقلال الذاتي الاستراتيجي لأوروبا على نحو ما دعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الماضي في أعقاب إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا والاستعاضة عنها بصفقة غواصات تعمل بالطاقة النووية من كلٍّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة (فيما عُرفت بصفقة Aukus)، حيث عد الرئيس الفرنسي ذلك بمثابة خيانة وأن حلف شمال الأطلسي «في حالة سكتة دماغية».
والطريف أنه كان من المقرر أن يقوم وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي، في اجتماع تقرر سلفاً في 15 يناير (كانون الثاني) الماضي، ببحث اقتراح إنشاء القوة الأوروبية المستقلة عن حلف شمال الأطلسي، والتي كثر الحديث عنها عقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان في أغسطس (آب) الماضي. وبدلاً من ذلك اقتصر الاجتماع على بحث الأزمة الأوكرانية التي فرضت نفسها على أجندته، خصوصاً أن الدول الأوروبية مستاءة من تهميش روسيا لها والتركيز دائماً على الحوار مع واشنطن أولاً في شأن أوروبي بامتياز.
ومن بين أهم الارتدادات السلبية أن الخصوصية في علاقات روسيا بألمانيا، والتي تعد عاملاً مهماً في معادلة علاقات موسكو بأوروبا والولايات المتحدة، قد تأثرت بشدة، حيث وجد التحالف الحاكم في برلين نفسه في وضع لا يحسد عليه، واضطر ليس فقط إلى تجميد مشروع «نورد ستريم 2»، بل إرسال الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا وتبني خطاب سياسي متشدد تجاه روسيا.
أخيراً تشير تقديرات أولية إلى إمكانية تأثر الاقتصاد الروسي بالعقوبات الغربية الجديدة، خصوصاً مع حرمان النظام المالي الروسي من منظومة المدفوعات الدولية (سويفت) والتي شملت بنك الجيش الروسي (برومسفياز) الذي يُبرم الصفقات الدفاعية، والقيود الأخرى التي فُرضت على التعاملات في السوق الثانوية على السندات السيادية. وكان الكثير من الخبراء الروس – وقبل أن يقرر الرئيس بوتين الأخذ بالخيار العسكري - قد طرحوا أفكاراً ومقترحات تتعلق بالرد على رفض الولايات المتحدة وحلفائها الاستجابة لمطالب روسيا، ومن ذلك: نشر أنظمة صواريخ جديدة على مقربة من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وخلق تهديدات عسكرية للولايات المتحدة في كوبا وفنزويلا، وزيادة وجود الشركات العسكرية الروسية الخاصة في المناطق غير المستقرة في أفريقيا، وتوسيع التعاون العسكري مع الصين وتصعيد الدعاية والهجمات الإلكترونية ضد الغرب. وعلى الصعيد الدبلوماسي، اقترح هؤلاء الانسحاب من ميثاق باريس (1990) ومن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ووثائق دولية أخرى.
* مدير المجلس المصري
للشؤون الخارجية - سفير مصر الأسبق لدى روسيا