الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

رسم خريطة أوروبا من جديد... بالدم

التاريخ يُعيد نفسه. عرف العالم هذه الحقبة المظلمة قبل ثمانية عقود. رجل يتسلق السلطة حاملاً أوهام العظمة وأحلام التمدد إلى خارج الخريطة التي لم تعد تتسع لطموحاته. وحاملاً فوق ذلك حساباً من تركة الماضي على «العدوان» الذي تعرضت له بلاده على أيدي المنتصرين. أدولف هتلر يصل إلى المستشارية في برلين للانتقام من معاهدة فرساي. وفلاديمير بوتين يصل إلى الكرملين للانتقام من اتفاقات رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف، التي أسدلت الستار على العصر السوفياتي، وحرمت موسكو من قيادة 14 دولة مجاورة، لكنها فتحت لروسيا باباً إلى القارة الأوروبية، كان يفترض أن يكون مدخلاً إلى الانتماء إلى أسرة واحدة، تحكمها أصول الجيرة الحسنة، واحترام حق دول هذه القارة في إدارة شؤونها كما يختار لها مواطنوها أن تدار.
بوتين ليس غورباتشوف ولا بوريس يلتسين. هو ابن مدرسة أخرى. لا يقر بمسؤولية قيادة الكرملين في زمن الحكم الشيوعي عمّا حل بالاتحاد السوفياتي. بل تأخذه نظرية المؤامرة إلى اعتبار ذلك الانهيار خطة غربية محكمة الأهداف، لإضعاف الزعامة الروسية، وفرض قيادة ذات قطب واحد على العالم. ولا يرى في اختيار الدول المجاورة التي كانت تدور في الفلك السوفياتي، الانتماء إلى الكتلة الأوروبية وإلى عضوية حلف الأطلسي، سوى جزء من تلك الخطة. لا يعترف بوتين بحق هذه الدول في اختيار مصيرها، لأنه ببساطة لا يرى أن لها حقاً في الوجود كدول مستقلة. وهذه قصته الأساسية مع أوكرانيا، كما مع دول البلطيق الثلاث، التي يهددها المصير نفسه إذا نجح الغزو الروسي لأوكرانيا، وأتيح لبوتين أن ينصّب في كييف النظام الذي يختاره.
إنه يوم مروع لأوكرانيا، ويوم أسود لأوروبا، كما قال المستشار الألماني أمس. ولأن أولاف شولتس هو ابن ألمانيا فهو يعرف الضريبة التي ستتحملها روسيا نتيجة هذا العدوان، عندما يقول إن التاريخ سوف يثبت أن بوتين ارتكب خطأ فادحاً بحق روسيا.
لكن المسؤولية ليست فقط مسؤولية بوتين. لقد اختار الغرب تجاهل حقيقة ما يخطط له الرئيس الروسي على مدى أكثر من عقدين، كان خلالهما يجري «التجارب» على حدود رد الفعل الغربي تجاه استهتاره بالقواعد التي تنظم العلاقات الدولية. دعك من سياساته الداخلية وانقلابه على قواعد تداول السلطة، التي كان الغرب يعدها شؤوناً داخلية. لكن بوتين كان يوزع السمّ القاتل للقضاء على معارضيه في العواصم الغربية. وقام بقلب الطاولة في سوريا على المعارضين ليفرض بقاء بشار الأسد في الحكم، في وجه انتقادات إقليمية ودولية واسعة، رداً على جرائم النظام السوري بحق شعبه. واستخدم «الفيتو» في مجلس الأمن أكثر من مرة لمنع أي تحقيق في تلك الارتكابات. وتحالف مع النظام الإيراني رغم تدخلات هذا النظام في أكثر من دولة عربية. واقتحم شبه جزيرة القرم واحتلها بحجة أنها «أرض روسية». ثم أرسل قواته إلى المقاطعتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، بحجة وجود أوكرانيين من أصول روسية فيهما، في تكرار لما فعله هتلر عندما ضم النمسا وإقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا بحجة الأغلبية الألمانية فيهما.
كل ذلك قام به بوتين أمام عيون العالم الذي لم يتحرك إلا بالتنديد والبيانات. وحتى عندما كانت تقارير الاستخبارات الغربية تؤكد نية الرئيس الروسي غزو أوكرانيا، أخذ القادة الغربيون يهرعون إلى طرف تلك الطاولة الطويلة والمهينة التي كان يفرض عليهم الجلوس إليها، كأنهم في جلسة محاكمة، يتوسلون إليه عدم غزو جارته، فيما كان الرئيس الأميركي يطمئن بوتين بأنه لن يرسل قوات أميركية إلى أوكرانيا... ماذا كان يمكن أن يستنتج بوتين من كل ذلك سوى أن هناك عجزاً غربياً كاملاً عن مواجهته، وضوءاً أخضر ليفعل بأوكرانيا ما يشاء؟
التاريخ يكرر نفسه. ومساعي استرضاء هتلر من رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين، ورئيس الوزراء الفرنسي إدوار دالادييه، كررها ماكرون وشولتس مع بوتين من دون أي فرصة للنجاح. فبينما كان يجلس معهم للتفاوض، كان قادته العسكريون يحضّرون خطة الهجوم على أوكرانيا.
لا تعاد كتابة التاريخ بالحبر بل بالدماء. هذا ما عرفته أوروبا نتيجة تهور رجل جاء إلى ميونيخ هارباً من النمسا، وانتهى به الأمر قادراً على تدمير بلاده وقسم كبير من مدن أوروبا معها، ما خلّف تركة ثقيلة حملتها ألمانيا على مدى نصف قرن، قبل أن يتاح لها أن تتوحد من جديد وأن تقيم علاقات تصالح مع جيرانها، بعد أن حرّمت فتح تلك الحقبة السوداء في تاريخها، من دون أن تزيلها من ذاكرتها.
وهذا ما تشهده أوروبا اليوم على يد متهور آخر جاء لينتقم من أسلافه الشيوعيين البلاشفة الذين يتهمهم بـ«اختراع» جارته أوكرانيا. ومثلما كان غزو بولندا الخطوة الأولى في طريق هتلر، بعدما اتهمها بأنها لم تكن دولة مستقلة أو طبيعية في أي وقت، هكذا يبدو اليوم غزو بوتين لأوكرانيا، انطلاقاً من أقاليمها الشرقية، معتمداً على الحجة نفسها: أنها لم تكن في أي وقت دولة طبيعية وقائمة بذاتها. غير أن الرئيس الروسي يتجاهل حقيقة أن هذه الدولة كانت بين الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي، عندما كانت «الجمهورية الأوكرانية السوفياتية الاشتراكية»، وكان يتم تنصيب رئيسها بقرار من الكرملين. يومها كان لـ45 مليون أوكراني الحق في كيان له حدوده وعاصمته. والآن يشترط بوتين أنه لن يعيد لهم هذا الحق إلا بعد إخضاعهم لإرادته وفرض إملاءات الإذعان على القيادة التي سينصّبها لهم.
إنها صفحة سوداء في التاريخ الأوروبي. وليس بوتين المسؤول الوحيد. فسياسات التساهل والاسترضاء مع ابن الـ«كي جي بي» المدلل، الذي أقنع الغربيون أنفسهم بأنه خلع ذلك الرداء، كان لا بد أن توصل إلى ما نشهده اليوم.