عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

معارف الصدفة والمهنية الصحافية

انتهزت فرصة عطلة برلمان وستمنستر لمتابعة ما يدور خارج المشهد السياسي اللندني، فصدمت كصحافي عجوز، من تدهور المستوى المهني للصحافيين. إهمال في تحديد تعريفات دقيقة لتكون مفهومة بلا التباس، وأخطاء معلوماتية معرفية، والأسوأ، عدم ذكر معلومات أساسية وحقائق تاريخية وجغرافية في التقارير. الخطأ في الخبر يمكن تصحيحه في الطبعة (أو النشرة) التالية، أو على الموقع؛ أما ترك معلومات أساسية (تعمداً بالانتقائية، أو عن جهل، أو تكاسلاً عن البحث) فأمر بالغ الخطورة. فهي ليست أخطاء بالمعنى الحرفي، لكنها تضلل الرأي العام بمعانٍ مخالفة للواقع (كالنموذج الشهير في مثال «ولا تقربوا الصلاة...»).
تقديري أن أجيال العقود الثلاثة الأخيرة من صحافيين شبوا في زمن الإنترنت والفضاء الإلكتروني اعتادوا الاستقاء من مصادر غير موثوقة، ويقضون وقتاً في محيط التواصل الاجتماعي، أكثر مما يقضون مع الواقع والناس الذين يعدون التقارير عنهم؛ أو باحثين عن الحقائق من الوثائق والكتب واستقصاء المعلومة من المصدر الموثوق به.
ولا توجد جامعة أو معهد علمي أو بروفسور جامعي يقبل بحثاً أو تقريراً يكون مرجع المعلومة فيه «ويكيبيديا»، أو «بوست» حتى ولو كان من صفحة زميل أكاديمي آخر على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ورغم ذلك أصبحت صفحات «ويكيبيديا» و«فيسبوك» من مصادر صحافيي الجيل الجديد.
تابعت تقارير الصحافيين عن الأزمة المتصاعدة بين الروس وحشودهم على حدود أوكرانيا في ناحية، وحلف شمال الأطلسي وأوروبا الغربية في ناحية أخرى، وخطورتها على العالم اقتصادياً، ناهيك بكارثة احتمال تطورها إلى حرب. لا يمكن الإلمام بكل أبعاد الأزمة وفهمها (كضرورة لشرحها بوضوح ومصداقية للرأي العام) بلا فهم الجغرافيا والخريطة الممتدة من بحر قزوين إلى غرب أوروبا، ومن بحر الشمال إلى مضيق البوسفور، والإدراك بأحداث التاريخ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية القرن الماضي.
غالبية الصحافيين ينقلون مطلب الناتو «بضرورة سحب القوات الروسية»، ونادراً ما يذكرون أن الحشود داخل روسيا نفسها، ونادراً ما يراجعون أرشيف تسعينات القرن الماضي ومحادثات زعيم الاتحاد السوفياتي وقتها، ميخائيل غورباتشيوف، بتفاهم مع القوى الغربية ووعد من حلف شمال الأطلسي (ناتو وكان اثنتي عشرة دولة فقط) بعدم التوسع بالأسلحة الهجومية شرقاً، لكن الأسلحة اليوم في الجمهوريات السوفياتية السابقة في حوض البلطيق.
وتابعت تقارير استبعاد بطل التنس الصربي نوفاك جوكوفيتش من مباريات أستراليا لرفضه التطعيم ضد فيروس كورونا المسبب لكوفيد. تقارير الصحافة (في كل أنحاء العالم) ربطته، ببغائية فائقة السرعة، «بالحركة المناهضة للتطعيم» (anti-vaccination)، متجاهلين تكرار الرجل في تصريحاته أنه لا ينتمي لأي حركة احتجاجية أو سياسية وأنه، كطفل، تلقى تطعيمات الوقاية من الأمراض. ويكرر جوكوفيتش في شرحه أنه يقبل الأمصال، كفيروسات أو بكتيريا ميتة أو أجزاء منها، ويقبل اللقاحات، كفيروسات وبكتيريا مستضعفة، لكنه رفض تطعيم كورونا الجديد لأنه ليس فيروساً أو جزءاً منه، بل شفرة من صنع برنامج الكومبيوتر تقلد إشارات العدوى لجهاز المناعة. أي أن الشاب يخشى منها على جهاز مناعته لأنها تجربة جديدة، وليس له اعتراض آيديولوجي أو سياسي. تجاهل معظم الصحافيين المخاوف التي يشرحها الرجل بإسهاب وإلمامه بالفروق بين أمصال، ولقاحات، وشفرة عدوى مقلدة، فيتركون الانطباع بأن مبرراته آيديولوجية ضمن حركة «مناهضة التطعيم» التي تعرقل الجهود الصحية لمحاصرة الوباء.
لافتة «حركة مناهضة التطعيم» نفسها مضللة في عدم دقتها. الحركة انطلقت ليبيرتارية للحد من تسلط أجهزة الدولة على الفرد قبل الوباء بسنوات؛ وليست ضد التطعيم، بل ضد «الإجبار» على التطعيم ليظل اختيارياً. ولو كلف الصحافيون أنفسهم عناء البحث في أدبيات الحركة ومحاورة نشطائها بدلاً من شيطنتهم بلافتات «كاليمين المتطرف»، لكانوا أفادوا الرأي العام. المفارقة أن الصحافيين أنفسهم يسمون حملة دعم الإجهاض «بالحق في حرية الاختيار» (المقصود حق السيدة الحامل مع تجاهل حق الجنين). أما «حملة حق الحياة» (المقصود حماية حياة الجنين) فيغير الصحافيون اسمها الرسمي إلى «الحركة المناهضة لحرية المرأة في الاختيار»، أو يسمونها «مناهضة حق الإجهاض»؛ وكلمات كدعم، وتأييد لها وقع إيجابي بينما تعبيرات كرفض، ومناهضة، ومعارضة «حق»، لها وقع سلبي لدى الرأي العام.
ولأني عاصرت عدة أجيال صحافية، لاحظت التدهور أكثر في جيل التواصل الاجتماعي واللابتوب، أكثر من جيل النوتة والآلة الكاتبة والتليكس.
مثلاً صادفت مقارنة فيسبوكية بصورتين، إحداهما لفصل دراسي أوروبي، وأخرى لصبية بزي وعصبة رأس، والتعليق «الفرق بين أطفال الدول العربية والدول الأجنبية».
ولأن كل الدول الأخرى «أجنبية» بالنسبة لمواطن أي دولة، فقد طلبت توضيحاً بسؤال «ما المقصود بالصفتين للدول؟»، خصوصاً أنهم لم يحددوا معنى «الدول العربية»، أهو سياسي أي أعضاء الجامعة العربية (وبينهم دول وأقوام غير عربية عرقياً ولغوياً)، و«الأجنبية» إذن تعني بقية بلدان العالم، خارج الـ22 في الجامعة العربية؛ والصبية المقاتلون يبدون إيرانيين أو في معسكر «طالبان»، وهي (بلدان ليست «عربية» بالمعنى السياسي).
كان سؤالي للتدقيق، بشأن تعبيرات هي شعارات غير محددة؛ فما معنى «صحافي آسيوي؟» أو «فنان عربي؟» أو «كاتب أفريقي؟»، فلا أوراق رسمية (كجواز السفر) تدون «آسيوي» أو «عربي» كجنسية. صاحب البوست اتهمني بالجهل بدلاً من شرح المقصود!
لا بد أن لجيل الإنترنت دائرة معارف وقاموساً لا علم لي بهما إذن!
المتعاركون كلامياً على «فيسبوك» كالمنفعلين عقب المباريات في حانة إنجليزية فهي ليست كالمقهى زبائنه غالباً معارف يجلسون إلى مائدة. والجالسون عادة أكثر هدوءاً وترتيباً للأفكار من الواقفين غرباء، كتجمع بالصدفة لشراء المشروب في ثقافة الـ«بب». المشروب السائد في المقهى منبه للحواس، ومشروب تجمع الحانة خطر على قيادة السيارة، ويؤدي إلى رفع الصوت والانفعال، بلا بحث عن الحقيقة. ثقافة تجمّع الصدفة المؤقت في الحانة الإنجليزية هي المحيط الذي يسبح فيه الجيل الجديد من الصحافيين.