عاش المفكر السوري جودت سعيد غريباً، ومات غريباً؛ وستبقى أفكاره غريبة حتى تعود البشرية إلى رشدها!
استنَّ جودت سعيد منهج «اللاعنف» ضمن ثقافة تقوم على «الغلبة، والثأر، والانتقام، و(ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، و(ألا لا يجهلنَّ أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا)»، ووسط بلدان شهدت احتلالات عسكرية واستعماراً أجنبياً غاشماً، ودول قومية مارست سطوة ووحشية في التعامل مع مواطنيها؛ حيث يرضع الطفل ثقافة العنف مع اللبن، وحيث تستعر في صدره كلما كبر مشاعر القهر والانتقام. الحياة الاقتصادية أيضاً صعبة ومكلفة وشديدة الضغط على الناس، حتى لكأن اللقمة تُنتزع انتزاعاً؛ فعلى من تقرأ مزاميرك يا داود؟!
كانت رسالته نبتة ضعيفة في أرض سبخة، لا أمل لها، منذ كتب مطلع الستينات كتابه «مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي»، داعياً إلى السير على منوال ابن آدم الذي سلَّم عنقه لأخيه ليدكه بالحجر دون أن يبدي مقاومة! من يشتري هذا الكلام في بلاد يتنفس كل جيل فيها القهر والقمع والحرمان؟!
جودت سعيد كان مقتنعاً بمنهجه، مؤمناً بفكره ورسالته، لم يقدم فكراً مترفاً، ولم يمثل حالة فيلسوف السلطة الداعي للإذعان. كان ينظر للأمور بشكل مختلف. فالعنف المتبادل مجرد تدمير للذات والأوطان، و«لا يجوز الوصول إلى السلطة والحكم بالقوة وبالسيف، فكل من أخذ بالسيف؛ بالسيف يهلك، والتغيير بالقوة لا يغير المجتمع، وإنما يذهب هرقلٌ ويأتي هرقلٌ (آخر)»، وهو القائل: «إذا نجحت الثورة بالسلاح، فسنظل محكومين بالسلاح الذي نُحكَم به منذ 1400 سنة. وكل ما أُخذ بالسيف بالسيف يهلك». كانوا يلقبونه بـ«غاندي العرب»، وقد كان يرغب في هذا اللقب، للإشارة إلى أن المنهج السلمي الذي اختطه المهاتما غاندي حقق انتصاراً، وأسس أكبر ديمقراطيات الأرض، وحافظ على استقرار الهند بلد المليار نسمة، مع آلاف الأديان والمذاهب والعقائد والتشكلات الاجتماعية.
دعوته للسلم ونبذ العنف لم تجعله خانعاً للظلم، فقد أيد الثورة السورية بعد اندلاعها 2011، ودفع ثمناً باهظاً عبر الملاحقات الأمنية التي طاردته وعائلته، حتى اضطر للهجرة إلى خارج وطنه، ولكنه أيضاً لم يسلِّم فكره ونفسه لدعاة العنف وتجار الحروب، وقادة المحاور الذين هيمنوا على الثورة، وحولوها مع السلطة إلى حروب مدمرة.
توفي جودت سعيد غريباً في تركيا، وبقيت أفكاره تكمل غربتها، حتى يقتنع الأفرقاء جميعاً بأن السلميَّة وحدها طريق النضال، وبأن التغيير القائم على التدمير والتخريب والإفساد في الأرض هو أسوأ من أي وضع آخر، وبأن آليات الحوار والتسامح ربما تؤخر النتائج، وربما تطيل المعاناة، وربما تفشل، ولكنها السبيل الأفضل لحفظ النفس ومصالح الناس، وصيانة النظام العام، وحفظ الاستقرار.
أعاد رحيل جودت سعيد طرح أفكاره في النضال السلمي واللاعنف مجدداً. الآن بعد أكثر من عشر سنوات من الحروب البينية وتدمير المدن وقتل الناس، ما زال هناك من يرى أن هذه الأفكار مجرد «مثاليات» فارغة، ما دام العنف الرسمي بهذه الوحشية. لكن هذه الآراء لم تقدم دليلاً على أن العنف المتبادل كان أكثر رحمة وألين سبيلاً لحفظ الأرواح وسلامة العمران، وحتى لتحقيق الأهداف. العنف لم يضمن كرامة، ولم يحقق حرية، ولم يصنع استقراراً، وبالعنف أصبحت الأهداف المنشودة بعيدة المنال. يقول جودت سعيد: «لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع تغيير قناعات وأفكار أحد باستخدام الضغط والقوة، وإن القرآن يوصينا بعدم استخدام الإكراه في الإقناع. الضغط يولد ردود فعل قوية».
TT
جودت سعيد... «على من تقرأ مزاميرك يا داود؟»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة