سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الرقمنة حتى الموت

«ميرف» ظاهرة مثيرة لمائة سؤال. كثيرون لا يعرفونها، لكنها حظيت بملايين المشاهدات على قناتها على «يوتيوب»، مع أنها لا تقدّم طبخاً ولا أزياء، ولا تصميم ديكورات منزلية، وليس في مضمون فيديوهاتها مادة إباحية. هي مجرد طالبة في جامعة «غلاسكو»، تعلن عن برنامجها كل يوم اثنين، وكلما جلست إلى طاولتها للدارسة في الموعد المحدد، وجدت عشرات الآلاف بانتظارها، يشكرونها على إطلالتها، وعلى وجودها في حياتهم، وعلى مشاركتهم جلساتها الدراسية. أحد الفيديوهات شاهده أكثر من سبعة ملايين شخص، مع أنها لا تفعل غير القراءة في أوراقها والعودة إلى كومبيوترها الشخصي، وتستخدم أقلاماً للتأكيد على بعض الجمل، وأحياناً تشرب النسكافيه، بهدوء وبطء شديدين، يفترض أنهما يبعثان على الملل. الأغرب أن متابعيها لا يرون وجهها ولا حتى رأسها، ولا أي شيء منها. الكاميرا لا تريك غير يدين، تتحركان لتمسكا بالقلم أو تقلبا الورق أو تبحثا في دفتر، أو تلمسا أزرار اللاب توب، وهم مكتفون بذلك. ليس هناك موسيقى أيضاً، صوت الصمت، أو زخات المطر في أحسن الأحيان. لكن المكتب الخشبي بقرب النافذة الزجاجية المتسعة، يكشف عن مشهد اسكوتلندي لبيوت جميلة يعتليها القرميد وبعض الشجر. هكذا يقضي طلاب من أكثر من 160 دولة ساعات يومياً، مع ميرف، يتمتعون باستراحة عشر دقائق، كلما مرت خمسون دقيقة، وهم يشكرون الحظ - في تعليقاتهم - الذي أرسل إليهم هذه العطيّة، لتساعدهم على المثابرة، والتركيز، وتعطيهم القوة على الاستمرار.
هل نشعر بالشفقة على طلابنا؟ أم بالسعادة، لأنهم يجدون حلولاً لأزماتهم؟ الجائحة وعزلتها، كانت سبباً في تكثيف مثل هذه الظواهر. لكن تشتت الانتباه، وصعوبة التركيز سبقتا «كورونا». مع أن تقنية «بومودورو» لإدارة الوقت موجودة منذ الثمانينات، عندما طورها الإيطالي فرانشيسكو سيريلو، وتعتمد على تحديد الأهداف، واستخدام منبه كل 25 دقيقة من العمل لأخذ استراحة قصيرة، والعودة بنشاط، والانتباه إلى أن الثواني تمرّ سريعاً، إلا أننا لم نحتج لكل ذلك، حين كنا نرتاد صفوفنا بفرح وندرس بشهية ومتعة.
طفت «تقنية الطماطم» أو الـ«بومودورو» على السطح، صار لها تطبيقات عدة، للمساعدة على انتهاجها. الجيل الجديد، أصبحت هذه التقنيات، جزءاً من يومياته، وضرورة ملحة لكثيرين، كي يتمكنوا من مقاومة اللهو.
هناك أيضاً من يلجأ إلى تطبيق «فورست»، بعد أن صنّف بين الأكثر إنتاجية في 85 دولة، ووظيفته ببساطة أن يمنعك من استخدام هاتفك، لأنك تزرع شجرة، تنمو أثناء عملك، وإذا ما حاولت فتح أي خدمة أخرى، في هذا الوقت، ستتسبب في موت شجرتك، لذلك ستفضل أن تنظر إليها بين الوقت والآخر، لتفرح بنموها وتقاوم ميلك في التصفح العبثي. قد تبدو الفكرة ساذجة. لكن بدأت الهواتف تتسبب في كوارث رغم أهميتها. حتى الاستغناء المؤقت عنها يتسبب في قلق، ويبعث الوساوس. كتبت مجلة «ما سنتيه» الفرنسية قبل أيام، عما سمته «نموذج الرقمنة حتى الموت» لأن «التلامذة ما عادوا يعرفون كيف يكتبون بالقلم، ولا يريدون أن يبذلوا جهداً للكتابة على لوحة المفاتيح، لأنهم اعتادوا على إدخال الصوت (لتقوم الآلة عنهم بباقي المهمات)».
معرفة العواقب المقبلين عليها، في السنوات الآتية، لا تزال شحيحة، نحن في قلب التجربة. بسبب تسارع تدفق المعلومات، الشباب اليوم يمنحون بالمتوسط 8 ثوان لكل معلومة جديدة تصلهم، للحكم على مدى ملاءمتها أو التعامل معها، مقارنة بـ12 ثانية في عام 2000. التمرين على السرعة الفائقة، يعيد تشكيل العقول، ويتحكم في ردّات فعل المليارات الذين يستخدمون الهواتف.
نشرت «الغارديان» البريطانية مؤخراً مقطعاً من كتاب شائق ليوهان هاري، عنوانه «التركيز المسروق: لماذا لا تستطيع الانتباه»، يشرح فيه، أنه لا مجال، لأن يكون للإنسان دماغ طبيعي، وسط كل التأثيرات الدخيلة التي تحيط به. «طلاب الجامعات لا يركزون على أي مهمة، يكلفون بها، أكثر من 65 ثانية بحسب الدراسات، فيما الموظفون في المكاتب يركزون في المتوسط بشكل جيد لثلاث دقائق. مبالغة أم لا؟ تلك هي نتائج الدراسة التي ينشرها يوهان «هذا لا يحدث لأننا أصبحنا جميعاً ضعيفي الإرادة. تركيزك لم ينهَر. إنه مسروق».
لهذا تبدو «ميرف» لمتابعيها، كأنها مخلّص من جحيم «التشتت» والإحساس الجهنمي بالدوران في فراغ، أمام شاشة تنهش الوقت، ولا تكفّ عن ابتلاعه كغول لا يشبع. فمن عناصر سحرها، أنها لا تزال تستخدم دفتراً لتسجيل ملاحظاتها، وتعتمد الورق والكتب للدراسة، وكذلك تحديد المهم من المعلومات، بالقلم الملون.
كل همسة من «ميرف» باتت موضع فضول متابعيها. ولا نعرف إن كان هذا اسمها الحقيقي، وهل هي طالبة بالفعل؟ وكيف تجد الوقت للتصوير والمنتجة؟ يسألها متابعوها عن اختصاصها، مع من تعيش؟ عن سرّ قدرتها التنظيمية الفائقة، نوع دفاترها؟ أقلامها، هاتفها، كومبيوترها، شموعها، موقع عملها، وحتى الكاميرا التي تستخدمها في التصوير. والطريقة التي تنظف بها نافذتها اللمّاعة. هكذا صار بمقدور «ميرف» التي يفترض أنها المنقذ من الدورة الافتراضية القاتلة، أن تعيد إغلاق الدائرة التسليعية لتطبق على متابعيها، بالترويج لكل ما تصوره كاميرتها، كما كل المؤثرين الآخرين، للأماكن التي تتنزه بها، والمشروبات التي تحبها، والشموع والنباتات التي تزين بها طاولتها. وهي من الآن، جعلت اسكوتلندا مشتهى الملايين، حتى أولئك الذين لا يعرفون تحديد موقعها على الخريطة.