د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«اللغة الأمرية» العربية!

أعلنت محلات السوبر ماركت البريطانية الشهيرة «موريسون» تخليها عن فعل الأمر المكتوب على قنينة الحليب وهو «استخدمه قبل» كذا وكذا use by. في إشارة إلى دفع الناس إلى استخدام منتج الحليب قبل تاريخ محدد في فعل «أمر» واضح، قلما يستخدم في تلك البلدان الغربية.
الثقافة الإنجليزية والأميركية الحديثة تحاول بقدر الإمكان أن تعطي الآخرين حرية الاختيار في المدرسة والبيت والعمل أحياناً، على اعتبار أن المرء يستطيع أن يُعمِل عقله في قراراته. ولذا عندما طبق الناس «فعل الأمر» بحذافيره صاروا يتخلصون من «ملايين الأطنان من الحليب الصالح للاستخدام»، استجابة «لأمر» سوبر ماركت Morrison، في حين يقول المختصون إن اختباراً بسيطاً عبر شم الحليب أو تذوق مرارته أو حموضته يكشف حقيقة انتهاء الصلاحية.
وهذا ما دفع السوبر ماركت إلى التخلص من فعل الأمر واستبدال كلمة «يفضل استخدامه قبل» best before به، فمنحت المستهلكين خياراً ومسؤولية.
هذه الحادثة ذكرتني بانتشار فعل الأمر في ثقافتنا العربية، فتجد أن أحداً يوجهك بقوله: «اشرب» كذا، أو «كُل» كذا و«لا تفعل» كذا... وهكذا وهي لغة أمرية نشأت من ثقافة رب الأسرة أو شيخ القبيلة أو الداعية الذي يكن له الناس الاحترام. وإن كان هذا الشيء محموداً في الثقافة العربية، إلا أننا بدأنا بالمبالغة في استخدامه حتى صرنا نغفل عن أهمية منح أطفالنا الحق في التعبير عن رأي مغاير في أبسط الأمور، ابتداءً من ماذا يريد أن يطلب لوجبة الغداء أو المدرسة مروراً باختيار ألوان ملابسه وانتهاء بتخصصه الجامعي. وكأن لسان حال الأب الذي فشل في أن يصبح طبيباً أو مهندساً أو طياراً يريد أن يأمر أبناءه بأن يحققوا ما أخفق هو في تحقيقه.
وأياً كانت هذه العقلية إلا أن فيها تحجيماً للإنسان وتعزيزاً لفكرة الانقياد للآخرين ليس لسبب سوى أنهم يكبروننا ببضع سنوات، علماً بأن السن ليس لها علاقة باختيارات المرء المشروعة طالما وجد الاحترام المتبادل.
من المهم إعادة النظر في قضية الأمر ابتداءً من المدرسة، والمنبر، ومائدة الطعام التي يلتئم حولها شمل أفراد الأسرة وانتهاء ببيئة العمل. لم لا نعطي من حولنا خيارات ليختاروا الأقرب إلى حاجتهم وذائقتهم؟ وكلما بدأنا في سن مبكرة أسهمنا في تعويد الأجيال على اتخاذ قراراتهم بحرية وبمعزل عن الأوامر والنواهي. ومن الحكم التربوية لتعليم الطفل على اتخاذ القرار: تخييره بين أمرين أو لونين أو ملبسين... وهكذا حتى يعتاد. ويصبح لدينا شخصيات تفكر ملياً قبل أن يوجهها الناس. فتخيل حالنا لو حاول مليارات البشر استخدام عقولهم في قرارات صغيرة سيصبح في مقدورهم اتخاذ قرارات كبرى، عندئذ قد تنحسر اللغة الأمرية التي تتمدد في فراغ تسليم عقولنا وخياراتنا المشروعة للآخرين.