د. ياسر عبد العزيز
TT

إعادة تعريف «الإنترنت»

في الأسبوع الماضي تسنى لي أن أسافر بالطائرة مرتين؛ وفي كلتيهما رددت اسم أسامة بن لادن مصحوباً بعبارات غير ودية؛ إذ لم أنسَ أبداً أنه كان أحد أسباب تعقد إجراءات الأمن في المطارات، وربما إفساد قدر لا بأس به من متعة السفر.
تلك هي الحال دائماً؛ تبدأ صناعة النقل الجوي عملها مثلاً بقيم ذكية ومنفتحة ومتفائلة، ثم تنقل الناس بين الأماكن، والجميع ينعم بالسهولة والراحة، إلى أن يأتي تجار المخدرات ومهربو الأموال ليستغلوا هذه القيم المنفتحة، فتتعقد إجراءات الأمن للحد من جرائمهم. ثم يأتي أسامة بن لادن - ومن معه ومن على شاكلته - ليستغل ما بقي من تلك القيم، فتتغير الحال، وبدلاً من أن تكون الرحلة الجوية جزءاً من متعة السفر تضحى ضريبة على رفاهيته.
لطالما كان الانفتاح قيمة إيجابية تساعد على النجاح والازدهار، بينما يظل الإفراط في التنظيم عنواناً للتقييد والحد من الانطلاق، ومع التسليم بذلك، فإن أحداً لا يجادل في ضرورة تعزيز التنظيم كلما كان غيابه سبباً مباشراً لتهديد الأمن والمصالح الحيوية.
حدث شيء من ذلك مع شبكة «الإنترنت»؛ فتلك الشبكة التي تم ابتكارها في الولايات المتحدة غداة نهاية الحرب الباردة بدأت عملها المذهل والمثير للخيال معتمدة آيديولوجية قائمة على الانفتاح والحرية والتفاعل النشط بين الأفراد والجماعات والأمم.
رفدت «الإنترنت» الإنسانية بفوائد عظيمة، واختصرت قروناً من العمل في المعرفة والتواصل إلى سنوات، لكن بموازاة ذلك نشأت أربعة مخاطر؛ أولها درجة كبيرة من الاعتماد على الشبكة التي استسلمت لنزوع احتكاري لعدد محدود من الشركات الأميركية، وثانيها قابلية كبيرة للتأثر بأنشطة ضارة وهدّامة على صعيدي الأمن الفردي والخصوصية، وثالثها ممانعة واضحة لجهود التقييد والضبط، ورابعها أنها باتت أداة من أدوات الحرب والصراع والتدخلات في شؤون الدول.
لقد أقنعت تلك المخاطر السلطات الوطنية في عدد من دول العالم بضرورة اتخاذ تدابير لتنظيم الشبكة؛ وقد جرى هذا عبر سن قوانين محلية تستهدف فرض قيود على المحتوى المُتداول عبرها، أو تغريم الشركات العملاقة القائمة على أهم مواقعها مبالغ موجعة عند وقوع «المخالفات»، أو ملاحقة المستخدمين ومحاسبتهم على الممارسات غير المرغوبة.
كلما تم الإفراط في تلك الإجراءات «الدفاعية»، كُبح نمو الأنشطة على الشبكة، وتغيرت آيديولوجيتها القائمة على الانفتاح والحرية إلى آيديولوجية جديدة قائمة على الضبط والرقابة والتعتيم.
لكن تلك التدابير لم تكن كافية عند احتدام الصراعات بين القوى المؤثرة وزيادة قابلية الشبكة للعب أدوار في حسم تلك الصراعات، وهنا نشأ تعبير «الإنترنت السيادي»، الذي هو حقيقة صينية في الأساس ظهرت عندما أممت بكين الأنشطة على الشبكة وأخضعتها للسيادة الوطنية.
أما روسيا، التي أظهرت ولعاً بالشبكة وبراعة في التلاعب بثغراتها، فلم تكن بمنأى عن محاولة تأميمها؛ إذ وقع الرئيس بوتين قانوناً في عام 2019 تحت اسم «السيادة على الإنترنت»، ومنذ ذلك التاريخ وموسكو لا تتوقف عن محاولة الاستئثار بإدارة شبكتها، بما يبقيها بعيدة عن تأثيرات الشبكة الأم وتدخلات القائمين عليها.
وعندما حدث التعطل المفاجئ في خدمات «فيسبوك» العام الماضي، وجدت الرئاسة الروسية الفرصة مناسبة لكي تؤسس للوضع المرغوب، عبر قولها: «إن ما يحدث يجيب عن السؤال الخاص بما إذا كنا في حاجة إلى شبكات اجتماعية ومنصات (إنترنت) خاصة بنا».
يدور حديث مهم في أروقة مراكز التفكير الغربية راهناً حول التغير الذي طرأ على قيم «الإنترنت» من الانفتاح والحرية إلى الضبط والتقييد، والتصور الذي يتغير رويداً رويداً من «شبكة أممية تربط الأفراد والأمم» إلى «مسار ملتبس يحظى بالفرص وتحوطه المخاطر ويحتاج إلى إدارة حكومية».
ويتطور هذا الحديث مع الوقت ليطرح التساؤل عما إذا كانت آيديولوجية «الإنترنت» يجب أن تتغير، خصوصاً أن الشبكة باتت جزءاً من الحرب المعاصرة وأداة رئيسية للنزاعات السيبرانية، وأن المساحة التي تحظى بالاتفاق على أساليب إدارتها تتقلص باطراد، وأن المجتمع الدولي لم يطور آلية واضحة ومُتفق عليها لتنظيم الشبكة والحد من المخاطر التي تصدر عنها.
فإذا استمر الإخفاق في جبر الرتوق الآخذة في الاتساع في الشبكة، فإن «الإنترنت السيادي» سيصبح ملمحاً أساسياً في العقد الراهن، وستعتمده دول كثيرة، خصوصاً تلك التي تُوصف بالانغلاق أو الاستبداد، وهنا ستتغير آيديولوجية الشبكة من «الحرية والانفتاح» إلى الامتثال للسيادة الرقمية الوطنية، التي هي «حق الدولة في إدارة نطاقها الرقمي وفقاً لتشخيصها لمصالحها الحيوية».
سيعني هذا أن «الإنترنت» ستكون شبكة لا مركزية، وأنها ستعيد تذكيرنا بالأوضاع التي سبقت ظهورها بإشراقاتها الزاهرة وصدماتها العميقة.