د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

حقبة صناعة القادة

بعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أفاقت القارة الأوروبية «العجوز» من غفلتها، وبدأ كبار مفكريها بالبحث عن مكمن المشكلة. من تلك المشكلات التي حظيت باهتمامهم «صناعة القادة». فقد كان يعتقد في فترات سابقة بأن القائد هو من يتحلى بحضور الشخصية «الكاريزمية». هنا برزت حقبة نظريات «الرجل العظيم». وهو ما يعتبره البعض، وهم غير كثيرين، منهم الألمان بأن هتلر هو القائد الأوحد والأكفأ من ناحية «المهارات» لقيادة الأمة. حتى اتضح أنه مجرد رجل عادي خدمته الظروف، وتلاقت مهارات معينة فيه مع مواقف أوصلته إلى مآربه. ثم لقي حتفه في قصة الانتحار الشهيرة.
من المفكرين الكبار في تاريخ أدب القيادة العالِم ستوغدل الذي توغل في الكتب التي نشرت عن القياديين منذ عام 1904 حتى 1974 في بحثين منفصلين، خلاصة الأول أن القيادي يتمتع بصفات أبرزها الذكاء والبصيرة والإصرار والثقة بالنفس. وأكدت المحاولة الثانية ما جاء في الأولى بشيء من التوسع للصفات ولمحت إلى عنصر الموقف. ومنذ ذلك الحين ومحاولات الإعلام في هذا الميدان تأتي بصفة جديدة وتزيح أخرى. فلم يزد ذلك المهتمين إلا حيرة. غير أن كل تلك الجهود كانت في غاية الأهمية، بل تعد نقلة جذرية في فهم القادة، ذلك أن البشرية منذ فجر التاريخ صار أمامها ولأول مرة صفات محددة علمية يمكن أن يتدرب عليها القائد، غير أن ما زاد التباس الناس كيف يمكن أن نعلم المرء النزاهة أو المصداقية أو الذكاء حينما يفتقدها من نتوسم فيه صفات القائد.
ودخل عنصر جديد، أو بالأحرى مفقود لمّح إليه ستوغدل، وهو لماذا يتصرف من يتحلى بصفات القيادة البارزة في موقف ما بصورة تتناقض كلية مع ما صنعه البارحة على رؤوس الأشهاد. فتبين عبر نظريات عدة أُشبعت بحثاً، أن عنصر «الموقف» أيضاً يتدخل في رسم المشهد أو تصرف القائد. فمثلاً حينما تتعرض شركة لسرقة أو اختلاسات أو حفلة تسيب اكتشفها من يقودهم قد ينقلب ذلك الوديع أو «محبوب الجماهير» إلى شخص في غاية الشدة والحزم. فينقلب رأساً على عقب في سبيل ضمان حسن قيادة دفة السفينة إلى بر الأمان.
وليس ذلك فحسب بل إن أبحاثاً شهيرة أخرى كشفت النقاب عن أن ما يتوقعه الشعب من القائد في أمة ما قد تختلف أولوياته في أمة أخرى. فالكاريزما ثبت أنها ليست المطلب الأول عند العرب مقارنة باستقلالية القرار، ومقدرة المسؤولين على الدفاع عند مرؤوسيهم، وتحقيق نتائج يشار إليها بالبنان.
هذا كله يحتم أن يعيد كل بلد في أمتنا دراسة القياديين ومتطلباتهم في كل حقبة مهمة. وليس أهم من هذه الحقبة التي نعيشها، إذ أصبحت بحاجة لمتطلبات كثيرة إن كنا نريد اللحاق بركب التقدم عبر «صناعة قادة» يشار إليهم بالبنان.