إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

دعوة لمسيو ساردو

ليس مجرد انفتاح ما يحدث في السعودية اليوم، بل قفزة تشبه معجزة. تتمنى دول كثيرة اللحاق بماراثون العصر لكنها لا تملك ما يتوفر للمملكة من إمكانيات فائقة. هو النفط حين يأتي بالبهجة، لا بالسيارات الفارهة، فحسب، والمجوهرات التي تعشي البصر.
النفط نعمة وقد يكون نقمة. ذهب أسود يثير الغيرة والمطامع منذ نبع في تلك البلاد وما جاورها. كانت صحافة الغرب تتربص، في السبعينات والثمانينات، بمن تسميهم «شيوخ النفط». يومها، وقف الفرنسي ميشيل ساردو ليغني نشيده الطويل: «إنهم يملكون البترول ولا شيء غيره».
إنها الأيام التي ذهب فيها وفد عراقي إلى مؤتمر الشباب في هافانا وقدم أغنية نالت شهرة. جاء في مطلعها: «غلط غلط غلط... لسنا شرياناً يضخ النفط للعالم فقط... نحن شعب كان مهداً للحضارة... عربياً... لو توحد سوف يحتل الصدارة». إن الغلط ليس في الكلمات ولا في النوايا. بل في النفط الصح والنفط الخطأ. بين أن يكون ثروة تنهض بأصحابها وبين أن يتسلط عليه سراق يحيلون أهله إلى متسولين.
جرت أمواه كثيرة في دجلة والفرات، مذاك. والشعب الذي كان مهداً للحضارة تمزق بدل أن يتوحد. أما احتلال الصدارة فقد بات قضية تصيب فتؤذي. وهي مثل «الماطلية في الضلع» التي وردت في الأغنية العراقية المعتقة. تشبيه أراد به المغني أن يصف وجع فراق الحبيب. ويقال إن الماطلية تحوير محلي لاسم السلاح الإنجليزي مارتن هنري. بندقية قديمة يصوبها الرامي ويضغط على الزناد فيرتد أخمصها إلى صدره ويخز ضلوعه.
هل ابتعدت عن الموضوع؟ أثار نفط العرب نقمة ميشيل ساردو. مغنٍّ متذبذب الشهرة، يتقرب من السياسيين ولا يستقر على حال، لاحقته في فترات من حياته تهم بالعنصرية والفاشية والذكورية. كتب تلك الأغنية التي جاء، من ضمن ما جاء فيها: «لديهم البترول ولدينا النبيذ الجيد والخبز الطيب. لديهم الدولارات ولدينا عارضات الأزياء والمتاجر الكبرى والملاهي. لديهم البترول لثلاثين عاماً ولدينا القمح في الحقول لألف عام على الأقل. لا ثلج في جبالهم، لا قواقع في الشواطئ، رمال ساخنة فحسب. ينبع إيفيان من الألب لا من الصحراء. لديهم البترول ولدينا الأفكار».
أغنية بائسة؟ الأصح أنها شمطاء. تصلح لمناوشات الضرائر. أنا عندي وأنتِ ما عندك. وليتها انتهت عند ذلك الحد، ففي ختامها يوجه المغني دعوة إلى صبي سعودي يحمل لقب صاحب السمو، يقول له بكل أريحية: «عندما تجف آبار النفط ولا يعود هناك أحد في مكة، تعالَ إلى بيتي...».
مرت عقود أربعة على الأغنية ولم ينضب النفط. ونشرت صحيفة «لوموند» الرصينة ملفاً عن المملكة العربية السعودية، تاريخاً وحاضراً، جاء في عنوانه: «بترول... وأفكار». لكن سموم الأغنية عادت إلى الظهور غداة الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له صحيفة «شارلي إبدو» في باريس، 2015. نشروا على غلاف العدد الذي صدر بعد الهجوم رسماً كاريكاتيرياً لشخص يحمل قنينة شراب بيد وقدحاً بالأخرى. وجاء في التعليق: «هم يملكون الأسلحة ونحن نملك الشمبانيا ونغيظهم».
وساردو ما زال هنا، تجاوز السبعين لكنه يقف على المسارح. هل سمع عن العروض الفنية والحفلات الموسيقية في الرياض؟ ليت القائمين عليها يوجهون له دعوة. سيرى آباراً تفور بنعمة الأرض، وحقولاً مزروعة بالقمح، ومرافق علاجية وتعليمية وإعلامية حديثة. وقد يرى، من الجو، الملايين تذهب إلى مكة وتعود منها بسلام إلى ما شاء الله.