فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

ما بعد نقد شايغان على أحمد فرديد

لم يكن احتفاء بعض اللاهوتيين بمارتن هيدغر له ارتباط كبير بفلسفته، وما انشغلوا مطلقاً بنظريته في الكينونة، أو مفهومه في «الدازاين»، ولا حتى بتأمل محاضراته وأفكاره الأخرى، بل سحرتهم الشذرات التي لها تماسّها مع نزعات صوفية، أو أفكارٍ خلاصية، أو التماسات وجودية. ولا غرو، فهيدغر شاعر، وكاتب «طريق الحقل»، وفيلسوف الدروب المتعددة.
كنتُ قد شرحتُ من قبل هذه الفكرة بمقالتين نُشرتا بهذه الصحيفة الأولى بعنوان: «فلسفة هيدغر وسياسات التوظيف»، والأخرى عنونتها بـ«شايغان ضد توفيقية أحمد فرديد»، ولم تكن النزعة الآسيانية على الوجود والكون بشاعريتها ذات صدى لدى الشعراء والفلاسفة المأساويين فقط، وإنما بَنَت لها أتباعها لدى بعض الكتاب المهتمين بالفلسفة من جوانب اللاهوت والدفاع عن الأصول.
عدتُ للموضوع مجدداً بعد قراءة ملاحظة مهمة لداريوش شايغان، غير التي تطرقتُ إليها من قبل، وذلك في محاضرة له بعنوان: «أوهام الهوية» طُبعت لاحقاً في كتيبٍ صغير، يتحدث في الفصل الأول منها عن الاضطراب بين نمطين، بشتى جوانب أفكار المسلمين، والآسيويين. يقارن بين المفاهيم المتضاربة والمتعارضة، ويتطرق لمفهوم التاريخ حين يقول: «بعد أن غدا هذا التاريخ شاملاً، غدا أيضاً تاريخنا نحنُ، لا لأننا شاركنا في صنعه، بل لأن لا شيء يحمينا من عدوانه. ولكن ما معنى هذا التاريخ، إذن؟ هل هو التجلي المتدرج للعقل المطلق، بهدف بلوغ الوعي الذاتي للحرية في الذات النهائية التي هي الإنسان (هيغل) أم هو، كما يريده أحد المفكرين الأكثر إبهاماً في عصرنا، مارتن هيدغر، نسيان للكائن؟ هل للتاريخ، كما في نظر الشيعة الإيرانية، انتظارٌ أخروي، أو هو كما في نظر الهندوس، مرحلة متقدمة من الكاليوغا، التي ستختتم حتماً بالانحلال الشامل في نهاية الزمن؟ لا شك أن الإجابة عن هذه الأسئلة متعلقة، إلى حدٍّ بعيد، بزاوية النظر التي ننطلق منها».
هذه الملاحظة طرحها شايغان في أوائل التسعينات الميلادية، لقد خبر مستوى الاستقبال الذي حظي به هيدغر في أوساط الفكر الديني الشيعي. ومن أبرز من فَني بهيدغر وكرر مقولاته أحمد فرديد، فهو منهمك بمقولات هيدغر ذات البعد الآسياني للبشرية، فضلاً عن انسحارهم بمقولاته الناعية للكائن، بل حتى في تفسيره للتاريخ، فمقولات تصعيدية هيدغرية مثل: «الإنسان وُلد ليموت - لن ينقذ هذه البشرية إلا الله - مهمة الكائن نسيان الموت - نسيان الوجود»، كلها تدغدغ مشاعر المتكلمين ذوي النزعة الصوفية أو الروحية، بل عُرفوا لاحقاً باسم «الهيدغريين الإسلاميين»!
أذكّر بقول الرفاعي عن هوس فرديد هذا: «لفرط تبجيل فرديد لهيدغر منحه مرتبة ملكوتية لا ينالها سوى العرفاء، وهي (قرب الفرائض)». فقال: «إن هيدغر في مرتبة الوعي الذاتي وصل من قرب النوافل إلى قرب الفرائض»، ويقول: «فسرت هيدغر بالإسلام أنه الوحيد الذي ينسجم مع الجمهورية الإسلامية».
ملاحظة شايغان هذه تعيدنا للنقد الذي كتبتُه من قبل وأذكّر ببعضه لتماسّه مع الملاحظة موضع التحليل، حيث كتب مشير عون في كتابه «هيدغر والفكر العربي» ملخصاً لنقد شايغان لفرديد: «شهّر داريوش شايغان بالاستراتيجية المشوِّهة التي اعتمدها الهيدغري الإيراني الذائع الصيت أحمد فرديد (1912 - 1994)، وذلك في دراسة حديثة تناول فيها الاقتبال الإيراني لهيدغر، وكان فرديد قد أسّس في إيران مجموعة (الهيدغريين الإسلاميين)». يرى شايغان أن الخطأ الذي ارتكبه فرديد جرّاء هذا التقريب «يكمن في الإرادة في إخفاء أوجه التباعد الفعلي التي تفصل بين الفضاءين الفكريين؛ الفضاء الإسلامي والفضاء الغربي، والواقع أن الفكرين العربي والفارسي ينتسبان، كلاهما، إلى الرؤية الإسلامية للعالم. إن تكامل الفكرين في سبيل الإعلاء من شأن هذه الرؤية بَيِّنٌ إلى حد بعيد بحيث يغدو مشروعاً أن نعدّ الاقتبال الإيراني لهيدغر بمثابة نموذج للاقتبال الإسلامي، القابل لإعادة إنتاجه في سياق الفكر العربي».
وإذا كانت ملاحظة شايغان التي ذكرها في محاضرته: «أوهام الهوية» تنحصر في ارتباط بعض الشيعة في تفسير هيدغر للتاريخ، فإنه يمسك بزمام ملاحظته حتى حديثه عن سيرورته، يقول: «لم يكن لدينا أبداً فلسفة للتاريخ لأن الكائن لم يُختزل أبداً، بالنسبة إلينا، في فاعلية أو في سيرورة، التاريخ هو في نظرنا تاريخ مقدس، أو هو، بالأحرى، علم الآخرة. ويبقى التاريخ من آدم حتى محمد، بمثابة الكشف المتدرّج عن حقيقة خالدة هي (الحقيقة المحمدية)، أي اللوغوس؛ أما الشيعة الإيرانيون فليست نهاية التاريخ عندهم إلا رجعة الإمام المنتظر، أي حدث أخروي إذن؛ ذلك أن الزمن الذي نحياه حالياً هو زمن الانتظار، أما الهندوسي المؤمن الذي يتأمل على ضفة الغانج، فيبدو له أن تناسخات فيشنو ومآثر شيفا ربما تنطوي على حجم من الحقيقة أكثر بكثيرٍ مما تنطوي عليها، في نظر الفرنسي، حرب الخلافة الإسبانية في عهد لويس الرابع عشر».
«الهيدغريون الإسلاميون»، كما وُصفوا، وعلى رأسهم أحمد فرديد، لا يعبّرون عن حالتهم العاطفية مع بضع مقولاتٍ هيدغرية، وإنما عن طريقة منتشرة بين الآيديولوجيين للتعامل مع الفلسفات. ثمة انهماك محدث أسّست له مناهج ارتكاسية منكفئة مثل مدرسة «طه عبد الرحمن» رغم ثرائها المفهومي والتقني، غير أنها بنتائجها تثبّت ما هو قائم، وقد أثمرت هذه المدرسة عن جموعٍ من المتحدثين بالفلسفة وشؤونها من دون الوصول لمفهوم الفلسفة نفسه، وهذه من أعطال الحالة الفلسفية في المنطقة ككل، إن مستوى استخدام المفاهيم الفلسفية لتثبيت الأحوال الفكرية القائمة مجرد تنويع على الخطاب الأساسي. ولنا في تجربة فرديد مع هيدغر أكبر درسٍ معاصر، إن استعمال الأدوات الفلسفية بغية تزيين حقائقنا التي بين يدينا وتجميلها عمل غير فلسفي، وهذا معظم ما يسعى نحوه من احتل المجال الفلسفي على حين غرّة، وأحسب أن استمرار هذه الحال قد تودي بما تم إنجازه فلسفياً بسبب «الغزوة الآيديولوجية على المجال الفلسفي» التي نعيشها الآن.