إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

هذا الحسّ الواقف أمامك

والحس، بلغة أمي، هو الصوت. كانت تقول: «ما أسمع حسكم» فنخرس. لكنني عندما سمعت حس علاء يعقوب انتبهت إليه بكل حواسي. حرير معتق يطلع من حنجرة عميقة ويستولي على الأذن. يطغى على ما عداه من أصوات في الجلسة. كان ذلك في ملتقى للكتاب العربي جرى في فرنسا وحضره هذا الشاب بصفته بائع كتب. تمنيت لو عندي إذاعة لكي أضع الميكرفون في يده. أتركه يشاغل المستمعين ببرامج حسنة الإعداد. يقرأ نشرات مريعة ويضمد بحسه الجروح الكثيرة في الأخبار.
قال لي إنه حفيد الممثل السوري داؤود يعقوب، وقد أخذ الصوت عن جده الراحل. وكنت أظن أن الأصوات لا تُورث، حتى ولو اشتغل أبناء سيد درويش ووديع الصافي وصباح فخري بالغناء. لكن صوت علاء كان موهبة مكتفية بذاتها، كياناً مجسماً ذا شخصية. وهو لا يحتاج لأن يُركب على حنجرته ألحاناً. إن موسيقاه منه وفيه. وقد لا يصلح لأن يكون مطرباً لكن عليه أن يجد مكاناً لتوظيف هذا الصوت، أو أن يجد صيادو المواهب مكاناً له.
ولد علاء يعقوب في مخيم اليرموك أواخر تسعينات القرن الماضي. لم يعرف جده الذي كان قد فارق الدنيا في عمر مبكر، لكنه سمع الآخرين يحكون عنه. قيل له إن خامة صوته تشبه خامة جده. يحكي الولد فينتفض قلب الجدة ويتلفت. ولم تكن أحوال المخيم تسمح بمساحة للحلم. سافر الولد إلى الإمارات وأكمل الثانوية. ثم هاجر إلى السويد وأمضى سنواته الأولى هناك في حالة من انعدام الوزن، يخالط المجتمع الجديد ويتهجى منطوق اللغة الغريبة. اشتاق إلى الكتب العربية ولم تكن متوافرة. يملك أبوه داراً للنشر في دمشق ويرسل له الكتب من هناك. هكذا اهتدى علاء إلى فكرة أن يفتح مكتبة في استوكهولم وموقعاً إلكترونياً لتوصيل المطبوعات العربية في أوروبا. هل طويت صفحة الصوت؟ ليس تماماً. وقف على المسرح يقدم عرضاً منفرداً لقراءات من أشعار محمود درويش. طاف بالعرض ما بين مالمو وفيينا ومدن هولندا. مهاجر مُقتلَع يخاطب مُقتلَعين.
كان من حظي أن أعايش، في مراحل من المهنة، أصواتاً إذاعية ذوات بصمات. الحمامة الحلبية هيام حموي التي كانت تهدل من راديو «مونت كارلو». يسهر آلاف المستمعين العرب معها. يحاول كل منهم وضع صورة للحسناء صاحبة الصوت الدافئ. أما هي فكانت تفرح بسيل الرسائل التي تطلب موعداً للقاء، ثم تقطع على المستمع استرساله في الخيال. تقول له: «أنا أشبه بنت خالتك».
من زملاء الصحافة، أيضاً، القدير رواد طربيه. كان قد أمضى عمراً في الإذاعة، يمسك المعجم ويطارد المذيعين والمراسلين لكي يقوم لغتهم. هل تكون عين الفعل بالفتحة أم بالكسرة؟ وبسبب تلك المطاردة كان المحررون يتأخرون عن النشرة. ضاق ذرع المدير أنطوان نوفل، فأمر بإخلاء المكاتب من القواميس والمعاجم. وظل صوت رواد طربيه صارخاً في البرية.
ذهب إلى الجبهة العراقية في مهمة صحافية أثناء الحرب مع إيران. كان المراسلون يحيطون بالضابط الآمر ويطرحون عليه الأسئلة. وحولهم حلقة من عشرات المقاتلين. ولما طرح رواد طربيه سؤالاً تصاعدت همهمة الجنود. لقد تعرفوا على صاحب النبرة الآسرة التي تؤنسهم في وحشة الخنادق. تجمعوا حوله يعانقونه. كادوا يرفعونه على الأكتاف.
ويحدث أن يغيب صاحب الصوت المميز لكن حسه يبقى في الدنيا، بفضل التسجيلات. وآخر الراحلين شيخ المذيعين العراقيين غازي فيصل الذي توفي في القاهرة قبل يومين ونعاه الآلاف. صوت مهذب من زمن مضى.