فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

هل ينقذ المغاربة لغتنا العربية؟

في زيارتي الأخيرة قبل أيام بدعوة كريمة من «مؤسسة أصيلة»، في موسمها الثقافي الدولي الثاني والأربعون، كنت أقارن بين ما شهدته منذ عقود، حين درّست لسنتين نهاية السبعينات، وبين ما ألمسه الآن. فيما يخص مستوى تعليم وتدريس اللغة العربية. تغيير هائل قد حصل. لم تعد العربية في هذا البلد تلك الفتاة الخجول، التي كانته، بل نضجت وملكت لسانها. وأكثر من هذا هو لسان طليق، صافٍ لا شائبة فيه. فلم تعد هناك رطانة، ولا أصوات هجينة متداخلة.
لا ينطبق ذلك على الكتّاب والإعلاميين الذين قابلناهم والذين اشتركوا في الندوات الفكرية والثقافية التي نظّمتها المؤسسة فقط، بل حتى على طلبة المدارس المتوسطة والثانوية، الذين حضروا الندوات الشعرية في مبادرة جميلة من المؤسسة لتقريب الشعر من أذهانهم واهتماماتهم، والذين شاركوا في النقاش وطرح الأسئلة الناضجة بلغة عربية سليمة، قواعد وتركيباً. تشعر وأنت هناك أن المغاربة قد ربحوا فعلاً معركة التعريب التي بدأوها بعد الاستقلال 1956.
وكانوا صائبين في طرحهم شعار تحرير اللغة واستعادة نقاوتها، بل رفعه إلى مستوى تحرير الأرض، إذ لا يمكن أن يكتمل تحقيق الذات من دون تحرير الروح من كل أثقالها النفسية والوجدانية، وحل التناقض القاتل بين ما يعتمر فيها من مشاعر وجوارح وشغف، وبين لغة المحتل، التي كانت بمثابة احتلال آخر، هو أخطر من احتلال الأرض، وأشق خلاصاً.
هذه المعضلة التي عانى منها الإنسان المغربي معاناة وجودية وثقافية مريرة، لم تواجه الإنسان المشرقي لطبيعتي الاستعمارين الفرنسي والبريطاني المختلفتين تماماً كما هو معروف. لقد اكتفى البريطانيون بأخذ ما هو أغلى فوق الأرض وتحتها من نفط وغيره لإدامة وتغذية ثورتهم الصناعية، وتركوا لنا نحن الشرقيين لغتنا وثقافتنا، التي عرفتا ازدهاراً ملحوظاً في النصف الأول من القرن العشرين، على عكس الطرف الآخر المغاربي الذي كان على مثقفه وإنسانه أن يعاني صراعاً مضاعفاً من أجل استرداد هويته الأصلية. لم يكتفِ الفرنسيون بالأرض. كانوا أكثر خبثاً من زملائهم البريطانيين، وكانوا يعرفون أنهم إذا اضطروا لترك الأرض يوماً لا بد منه، فإنهم سيبقون حاضرين هناك طويلاً، لغةً وثقافةً وقيماً، من خلال مؤسساتهم الفرانكوفونية الضخمة الموجودة في كل مكان طُردوا منه مادياً، ولا تزال موجودة في بلدان كثيرة.
كل هذا أصبح معروفاً وسجّلته مئات الدراسات والأبحاث المكتوبة. لكن لا بد من المقارنة المحزنة بين ما حققه هذا البلد في استرداد هويته ولغته، وهو إنجاز يستحق أن يفخر به، وبين التراجع المريع الحاصل في الطرف العربي الشرقي، حيث أصبحت اللغة العربية غريبة في أرضها، بل موضع استهجان في أكثر من مكان. وإذا نُطق بها، أهينت أكثر، فيتحول فاعلها إلى مفعول، ومجرورها إلى نصب، حتى على مستوى كثير من كتابنا وإعلاميينا.
حان الأوان لقلب الأدوار. فإذا كان المغاربة في عقود خلت ينظرون إلينا بكثير من التواضع نظرة تقدير لما حققناه، فعلينا الآن أن نحسدهم ونعض أصابعنا ندماً على ما ضيّعناه.