زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

روسيا والعالم الإسلامي... الاختلاف لا يعني الخلاف!

النخب الروسية في يومنا الحاضر لا تنكر احترامها لتاريخ بلادهم أي الاتحاد السوفياتي، ولكنها تؤكد في كل مناسبة وعلانيةً انفكاكها من قيوده وهاجسه وفق طرح موضوعي وعقلاني. تغيَّر الروس فكراً وثقافة ورؤية وباتوا أكثر انفتاحاً وانسلخوا من مأزق الآيديولوجيا. بوتين الرئيس أعاد صياغة الأهداف الجديدة للسياسة الروسية وفق مسار له طابع قومي استرد به توهج بلاده وهو ما يعني إحلال التعددية القطبية في النظام العالمي الجديد، وقد كان.
بلاد الروس تتكون من أقاليم بثقافاتها وألوان تراثها وتربطها منظومة حضارية من تناغم واحترام وتعاون، فلا تلمس خللاً وانقساماً في طبيعة الحياة الاجتماعية ونموها أو حالة من الانفصام ما بين الوعي الاجتماعي والتطور المادي. لا يعانون من أزمة هوية، بل هم في دولة تجسد معنى التعايش في أبلغ صوره.
المتأمل لما يجري في روسيا يشعر بمناخ جديد يتعلق بالحداثة الفكرية والثقافية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية. ظن البعض أن نسيجهم المجتمعي بات ممزقاً بعد كل تلك المصاعب والتحولات التي مروا بها، ولكنهم ما فتئوا أن تمسكوا بترابطهم المجتمعي فضلاً عن اعتدادهم بقدراتهم وإمكاناتهم، مشددين على مساهمتهم في تعزيز الأمن والاستقرار في العالم. لا يُنكرون أن لديهم معلومات مغلوطة عن العالم العربي، ولكن في المقابل يرددون أن لدينا قناعات وتصورات مغلوطة عن بلدهم وثقافتهم وحتى عن طبيعة وأهداف قراراتهم السياسية، ويصرون أن كل قرار يتخذونه يتعلق في المقام الأول بمصالحهم وأمنهم القومي. عندما تزور روسيا تخرج بقناعة عن عراقة وتاريخ هذا البلد العظيم وحسن تعامل الشعب ومدى تقديرهم للمملكة.
كانت روسيا دائماً تحت الأضواء رغم كل شيء وحافظت على مكانتها رغم المصاعب، واستعادت الكثير من هيبة الأم؛ الاتحاد السوفياتي. في الزاوية الأخرى دولة كالسعودية كانت هي الأخرى شاغلة العالم وتحت الأضواء. فما الذي حدث؟
قبل أيام، 33 شخصية حكومية وعامة من 27 دولة إسلامية، بمن في ذلك رؤساء وزراء سابقون ووزراء خارجية سابقون والكثير من الشخصيات الدينية من العالم الإسلامي، اجتمعوا في جدة في لقاء مجموعة الرؤية الاستراتيجية «روسيا والعالم الإسلامي». جاء هذا الاجتماع في إطار مساعي روسيا لتعزيز علاقاتها بالعالم الإسلامي، وفي ظل مبادرة السعودية للحوار بين أتباع الأديان والثقافات. هذا الاجتماع استضافته السعودية للمرة الثانية، بعد أن استضافت دورته الرابعة في جدة عام 2008. هذا المنتدى عُقد هذا العام تحت شعار «الحوار وآفاق التعاون»، والذي يهدف لبحث القضايا المشتركة بين روسيا والعالم الإسلامي، وتعزيز التعاون في مواجهة التحديات القائمة. مجموعة الرؤية الاستراتيجية سبق أن أُسست في عام 2006 تحت إشراف يفغيني بريماكوف، والرئيس الأول لجمهورية تتارستان الروسية مينتيمير شايميف، وذلك بعد انضمام روسيا إلى منظمة التعاون الإسلامي بصفة عضو مراقب، حيث عقدت المجموعة منذ ذلك الحين اجتماعاتها في موسكو، وكازان، وإسطنبول، وجدة، والكويت ومدن أخرى.
الملك سلمان أكد شراكة المملكة مع روسيا في عدة مبادئ رئيسية، «منها احترام الشرعية الدولية، وتأسيس العلاقات على أساس الاحترام المتبادل، وسيادة واستقلال ووحدة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية»، مشدداً على «تمسك الدولتين بالالتزام بنظام عالمي عادل يسوده القانون الدولي».
وعندما يقول الملك سلمان إن العلاقات السعودية الروسية وطيدة وتاريخية، والتي تجاوزت عامها الخامس والتسعين، وشهدت قفزات نوعية في السنوات الأخيرة، بدليل التوقيع على الكثير من الاتفاقيات المشتركة في جميع المجالات، فإنَّ الرسالة قد وصلت للجميع.
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في كلمة ألقاها نيابةً عنه نائب وزير الخارجية المهندس وليد الخريجي، خلال اجتماع مجموعة الرؤية الاستراتيجية لروسيا والعالم الإسلامي، أوضح «أن المملكة تسعى لنشر ثقافة التعايش والتسامح، وبذلت في هذا الإطار جهوداً ملموسة في مجال تأسيس الحوار الدولي، وسعت لبناء حوارٍ داخلي فعّال بين جميع أطياف المجتمع عبر مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وأسهمت دولياً في نشر ثقافة الحوار بين مختلف أتباع الأديان والثقافات، وذلك من خلال عدة مبادرات، أبرزها الإسهام في إنشاء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، وتبنّي وثيقة مكة، ودعم جهود مكتب التحالف بين الحضارات التابع للأمم المتحدة، وحرصت على متابعة جميع تلك الجهود وتطويرها عبر إنشاء لجنة وطنية لمتابعة مبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، إيماناً منها بدورها الفاعل إقليمياً ودولياً في مد جسور التواصل ورفع راية التعايش والسلام في عالم يكتظّ بالصراعات». وأشار نائب وزير الخارجية الخريجي، إلى «أن العلاقات السعودية - الروسية شهدت تطوراً مطرداً مبنياً على أسس من الثقة المتبادلة، والتفاهم المشترك والتنسيق المستمر حيال القضايا والموضوعات التي تهم البلدين والمنطقة، مما عزز من فرص التعاون في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وأسهم في تحقيق النماء والرخاء لبلدينا الصديقين، وشارك في حماية الأمن والسلم الدوليين».
هناك 24 مليون روسي مسلم يرتبطون روحانياً بالسعودية، ما يدفع باتجاه توطيد العلاقات ما بين البلدين. الروس يرحبون بالتقارب مع المملكة ويسعون لتعزيز العلاقة مع السعودية، خصوصاً أن المقومات لكلا البلدين قادرة على أن ترتقي بالعلاقة التي لم توظَّف حتى الآن كما ينبغي، وإن كانت زيارتَي الملك وولي عهده لموسكو ردمتا آنذاك الفجوة في علاقات البلدين.
السياسة السعودية الراهنة كما أراها تؤكد أن اختلاف وجهات النظر إزاء قضية معينة مع أي دولة، لا يعني القطيعة معها، ولذا ما يجمع الرياض وموسكو هو أكثر بكثير من نقاط التباين، بدليل إرادتهما المضي في مسار العلاقة بتعزيزها استراتيجياً رغم وجود تباين في ملفات معينة. الشراكة مع الروس ضرورة ملحّة وحضورهم عامل توازن في موازين القوى. قد تتفق أو تختلف مع الروس إلا أنهم واضحون في نهاية المطاف، فإن قطعوا عهداً التزموا به. تغيير مواقفهم السياسية في متناول اليد إذا ما عُزز الحوار والمنفعة.
وكما قال زميلي الكاتب محمد قواص، إن موسكو تغيّرت وكذلك تغيّرت الرياض. لم يعد الكرملين يتحرك وفق قواعد الاتحاد السوفياتي، ولم تعد الرياض أسيرة ثوابت الحرب الباردة. تسعى روسيا إلى النهوض من كبوة سببها سقوط الإمبراطورية السوفياتية، فيما السعودية منخرطة بورشة كبرى لإعادة قراءة المشهد الدولي برمّته، والتموضع وفق شروط مستجدة. هناك «إقرار موسكو بأن السعودية باتت (الطرف الأساسي) الذي يقود الوجهة العربية في ملفات ساخنة متعددة، وإقرار الرياض بأن روسيا قوة عظمى تعود إلى الساحتين الدولية والإقليمية. العلاقة تأخذ طابعاً من تلك الندّية التي يتعامل بها الطرفان، حيث تبرز حاجة مشتركة للتكامل والتواصل، لا التصادم والتنافر».