زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

أزمة في لبنان... الأزمة هي إيران!

هناك من يعتقد أن لبنان قد دخل فعلاً في منزلق خطير غير مسبوق، وربما يكون الأخير، حيث المحصلة لا دولة ولا هيكل مؤسسات ولا اقتصاد وإنما أجواء صراع ومناخ حرب. من يحب لبنان يستغرب حالة الاستكانة والسلبية والاستسلام والصمت التي يعيشها أهله إزاء من اختطف الإنسان والتاريخ والجغرافيا في لبنان. الحالة اللبنانية نموذج تم استنساخه في دول عربية أخرى، وإخضاعها بقوة سلاح ميليشيا إرهابية تستقوي بقوى إقليمية. صحيح أن هناك أزمة في لبنان منذ عقود تخبو حيناً وتظهر حيناً آخر، ولكن الأكثر صحة أن المسألة برمتها تتعلق بارتهان القرار السياسي اللبناني لسلطة حزب إرهابي يأخذ أوامره من الخارج. دولة كلبنان، ورغم «اتفاق الطائف» الذي سبق أن طالب بإلغاء الطائفية السياسية، إلا أنها بدت ومنذ استقلاله كإشكالية بنيوية عضوية في تركيبته السياسية، ما جعله ساحة مفتوحة للتجاذبات الدولية والإقليمية.
كنا نقول قبل اغتيال رفيق الحريري إن المشهد السياسي اللبناني لا يستند إلى أرضية صلبة، وإن بدا هكذا ظاهرياً في أحيان عديدة نتيجة تسويات وتوافقات هشة لا تلبث أن تتلاشى مع أول خلاف سياسي. تعودنا على تغير موازين القوى في الساحة اللبنانية، وتغير مواقعها في مراحل سابقة. تلك الصورة لم تعد موجودة، بدليل أن مشهد اليوم ليس مشهد الأمس بعد أن تصدر «حزب الله» المشهد، واحتكر السلطة والقرار وكل شيء في لبنان. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي بات يعرفها القاصي والداني من أن «حزب الله» الإيراني هو سبب كل المشاكل ووراء كل بلاء وكارثة في لبنان منذ عقدين من الزمن.
لم يعد سراً أن «حزب الله» منوط به دور يتمثل في تخريب علاقات لبنان العربية تنفيذاً لأوامر إيرانية، والهدف هو إثارة الفتن في مجتمعات المنطقة. إيران دائماً ما تقلق من الدور السعودي الإيجابي في لبنان وتحاول عرقلته، لأنها موقنة أن للرياض مواقف تاريخية ناصعة ومشهودة كمبادراتها الدائمة للتقريب بين اللبنانيين.
ما يصنعه «حزب الله» في لبنان هو انقلاب على الشرعية والدستور والقانون وتنفيذ أجندة إيران على حساب الوطن اللبناني، ناهيك عما قام به من أفعال إجرامية بالمشاركة في قتل الشعب السوري، ما يجعل القانون الدولي يصنفه كمجرم حرب عابر للحدود. كان أكثر من عقدين ولا يزال يمعن في ممارساته ضد ترسيخ السلم الأهلي بدليل رفضه مناقشة ملف السلاح والاستراتيجية الدفاعية، علاوة على ضربه اتفاق بعبدا بعرض الحائط، وهو الاتفاق الذي ينص على «سياسة النأي بالنفس» ما يدلل أنه أصلاً لا يعترف بشرعية الدولة ومرجعيتها في ظل خنوعه المستميت لأوامر طهران، وهنا تكمن جذور المشكلة إن أردنا الحقيقة.
السعودية على الدوام كانت إلى جانب لبنان مادياً ومعنوياً، ودعمت جميع اللبنانيين من خلال إعمار لبنان وتحقيق المصالحة السياسية بدون تفرقة أو تمييز، ونجحت في تجنيبه الانجرار إلى حرب أهلية، ورغم أنها تعرضت إلى حملة شعواء وإلى افتراءات من البعض في فترات معينة، إلا أنها قابلت تلك الإساءات بالصبر والحلم، وبقيت على مسافة واحدة من الجميع، لأن مرادها هو أن ترى لبنان مستقلاً آمناً ذا سيادة. ولكنْ للصبر حدود كما يقال وقد بلغ السيل الزبى، فقد تجاوز بعض أعضاء الحكومة اللبنانية الخطوط الحمراء، وتجنوا على المملكة وزيفوا الحقائق، (وهل هذا جزاء الإحسان)، ما دفع القيادة السعودية إلى أن تضع النقاط على الحروف، لينتهي مسلسل المجاملات بكشف الأوراق واتخاذ القرار المناسب ليواجه لبنان قدره، ويراجع نفسه، أو يحاسب من أوصله إلى هذا الحال.
القرار السعودي جاء امتداداً لسياسة المواجهة التي تنتهجها الرياض بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز، لفضح سياسات طهران العدوانية في التدخل بشؤون الدول العربية. عاقبت الرياض، طهران، في بيروت، و«حزب الله» يعلم قيمة ودور السعودية، وأنها الدولة الوحيدة التي تقف ضد الطموحات الإيرانية التوسعية، وبالتالي تجد الأمين العام للحزب يغتنم أي مناسبة لمهاجمتها وتشويه مواقفها، وفق تصعيد مفتعل وتطاول شخصي رخيص يهدف من ورائه للتأثير على الدور السعودي داخل لبنان، وما قدمه من دعم سياسي ومعنوي ومادي خلال العقود الماضية.
يجب التنويه هنا بالوقفة الخليجية مع السعودية ضد تلك الفئة المحسوبة على لبنان. الموقف الخليجي كان لافتاً في مضامينه وتوقيته، ويبدو أن الرسالة وصلت بشكل واضح لكل الأطراف المعنيين، وأولهم إيران. التكتل الخليجي وتعافيه مؤشر إيجابي مهم، ويجير للدبلوماسية السعودية التي نجحت في رأب الصدع وإعادة حيوية العلاقة بين الأشقاء بجهد منقطع النظير، ولعل التعاطي مع أزمة لبنان دليل حي على هذا الترابط والالتفاف الذي يكرس معنى وحدة المصير بين الأشقاء.
لا أحد يعلم إلى أين تتجه الأمور، لكن المعطيات على الأرض تشير إلى دخول لبنان في نفق لا يوجد في نهايته ضوء، بدليل التراكمات الداخلية والمناخ المأزوم بين الأطراف السياسية والمعاناة الاقتصادية... وكلها عوامل تنذر بدخول البلاد في سيناريو مرعب قد ينتهي به المطاف إلى نشوء حرب أهلية مستعرة.
أزمة لبنان تعيدنا للمربع الأول، وأن ثمة مسؤولية لا بد على العرب من أن يتحملوا أعباءها، وهي بناء سياسة عربية فاعلة إزاء القضايا المطروحة في المنطقة، بحيث لا تستطيع أي جهة غير عربية أن تملأ الفراغ بالنيابة، فالفراغ لم يأتِ من فراغ - إن جاز التعبير - بل جاء نتيجة للخلل الراهن من اختلال توازن القوى في المنطقة، ناهيك عن الخلافات والانقسامات وحالة التشظي ما بين العرب، وهي عوامل مغرية بالتأكيد للقوى الإقليمية التي تستغلها لصالحها.