داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

من «انتهت المهمة» إلى «التسليم والتسلُّم»

لكي لا ينسى العراقيون ما حدث منذ عام 2003 حتى اليوم في بلاد الرافدين، فمن الضروري أن نستعيد بين فترة وأخرى أوراق الاحتلال الأميركي منذ «بدأت المهمة» وعلى لسان المحتلين أنفسهم وصحافتهم إلى أن تم «التسليم والتسلُّم» بين الاحتلال الأميركي والاحتلال الإيراني. وهو درس مهم ومصيري لكل دولة عربية تغامر بوطنها وشعبها وتاريخها ومستقبلها كما جرت الأمور في اليمن وسوريا ولبنان وليبيا... والعراق أولها.
في 5 مارس (آذار) 2010 صدرت مجلة «نيوزويك» الأميركية تحمل على غلافها «بشرى» للشعب الأميركي تقول بحروف كبيرة: «وأخيراً انتصرنا... نشوء عراق ديمقراطي». فإذا قرأت هذه الكلمات الخمس ببطء ستكتشف أنها نكتة! أو نقدٌ ساخر حاد لما أعلنه قبل ذلك بسبع سنوات الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عن «إنجاز المهمة».
ضع أمامك أي صحيفة عربية لأي يوم من أيام الاحتلال الأميركي ثم أيام الاستيطان الإيراني ستجد أن اسم «العراق» لا يغيب عن صفحات الأخبار أو الرأي. ليس للاختراعات العراقية المبتكرة التي أغرقت الأسواق العالمية، ولا للازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي وديناميكية الحكومات المتتالية في بناء المشاريع التنموية من مصانع وكهرباء وجامعات ومدارس ومستشفيات ومطارات وموانئ وطرق وسدود وبحيرات وزراعة، وكلها وهمية وعلى الورق فقط، وإنما للفساد العام والفوضى في الإدارة والسلاح المنفلت والميليشيات التي أصبحت دولة داخل الدولة أو دولة قوية داخل دولة ضعيفة.
مضت 11 سنة على صدور ذلك العدد من المجلة الأميركية وفيه افتراء نشوء «عراق ديمقراطي». ابحث في أي صحيفة عراقية أو عربية أو أجنبية أو أي قناة فضائية وقل على طريقة أرخميدس: وجدتها! لو وجدت خبراً يسعد ملايين العراقيين من الشمال إلى الجنوب.
طوال أكثر من 18 عاماً من المعاناة والنكبات والفساد والحكومات الطائفية والعنصرية الهزيلة التي نهبت ثروات البلاد وهَجّرت ملايين العراقيين في الداخل والخارج، وتخلت عن سيادة العراق لدول الجوار وغير الجوار، لم يشهد العراق أي دليل على استعادة مقومات الدولة النامية العادلة الحريصة على سمعة البلد ومصالح الشعب.
منذ أكثر من عقد أكدت صحيفة «نيويورك تايمز» أن الفساد المستشري في المؤسسات العراقية المختلفة يشكل تهديداً حقيقياً للدولة، كما يشكل تهديداً أمنياً وخطراً قاتلاً يودي بحياة ألوف العراقيين الأبرياء. والمعضلة الرئيسية أن مخاوف الشعب الكبيرة سببها أن المخاطر الأمنية تأتي من داخل النظام نفسه. والفساد يبدأ من القيادات العليا المتتالية وانتهاء بالجنود الذين ينتشرون في النقاط الأمنية على الطرق والجسور تحت تسمية «السيطرات» وهي في الحقيقة بؤر فساد ورشى واعتقالات واغتيالات. وجاء وقت كثرت فيه السيارات الملغومة التي تنفجر في التجمعات البشرية، وقال المتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى: «إن السيارات الملغومة لا تنزل من السماء، فهي تسير في الشوارع وتجتاز النقاط الأمنية بسهولة حتى تصل إلى أهدافها». ومعنى ذلك أنه لو لم يكن هناك فساد لما استطاع الإرهابيون المحليون اجتياز تلك الحواجز. ويتعرض ذوو المعتقلين إلى انتهاكات حراس السجون لإجبارهم على دفع أموال لهم مقابل رؤية أبنائهم، إذا سمحوا بذلك.
وقبل سنوات اعترف وزير الداخلية العراقي الأسبق جواد بولاني، بأن الفساد في البلاد أصبح «ظاهرة» تشكل تهديداً حقيقياً لهيكل الدولة شبه المتهاوي. وأكثر من ذلك أن الوزير اعترف بأن «فرق الموت» كانت تُدار من قِبل ضباط أمن داخل الوزارة! يكفي أن نعلم من بولاني أنه خلال عامين من توليه المنصب تم فصل 62 ألف منتسب من الوزارة. لا فرق بين الفاسدين الكبار والصغار في مؤسسات الدولة، فقد تم اعتقال نائب وزير النقل بتهمة محاولة الحصول على 100 ألف دولار رشوة من شركة أمنية مقابل التعاقد معها لتوفير الأمن في مطار بغداد الدولي. ووصل الفساد إلى العملية التي تسمى «الديمقراطية» بحيث أطلق الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس تسمية «عراقراطية» على النظام السياسي في العراق لغرابته وتناقضاته وفساده وغياب العدالة ليس في المجتمع فقط، وإنما في توزيع المناصب والسفارات والامتيازات أيضاً. وكان بترايوس قائداً للفرقة 101 المحمولة جواً التي احتلت محافظة نينوى في بداية الغزو، وأصبح بعد ذلك قائد القوات الأميركية في العراق قبل أن يتولى رئاسة المخابرات المركزية. وفي تلك المهمة فشل فشلاً ذريعاً، وقال محللون سياسيون وعسكريون أن بترايوس لم يستطع انتشال أميركا من مستنقع الفشل الذي أغرقها في العراق.
إنه نوع من «الميلودراما» أن تبدأ الولايات المتحدة، التي جاءت وفقاً لتصريحات الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لـ«تحرير» العراقيين، باعتقال آلاف العراقيين، وكانت تسحبهم من منازلهم في منتصف الليالي وتلقي بهم في المعتقلات، وجدران زنازين سجن «أبو غريب» شاهدة على ما حدث هناك من مصائب. وبعد كل تلك الأعوام السوداء أدرك الأميركيون أن العراق تحول إلى جحيم بعد أن فقدوا أكثر من 4000 عسكري أميركي ولم يتحول العراق إلى «منارة هداية» للديمقراطية في الشرق الأوسط كما كانوا يدعون ويتباهون.
لقد لجأ الأميركيون إلى أسوأ عملاء إيران لتسليمهم مفاتيح الحكم في بغداد، ولجأوا إلى أكثرهم فساداً لتولي شؤون الاقتصاد والتجارة والنفط والبنك المركزي والكهرباء والاتصالات والسلك الدبلوماسي الخارجي والقوات المسلحة والمعتقلات. في بضعة شهور فقط من بدء الاحتلال تحول العراق إلى أفغانستان أو الصومال لكثرة الميليشيات الموالية لإيران وشيوع الفساد والاغتيالات والاعتقالات وتصفية علماء العراق والضباط السابقين وأساتذة الجامعات والأطباء والفنانين والشعراء ليعمّ الجهل والانحطاط والظلام. لا شيء يثير النفور في بلاد الرافدين أكثر من الميليشيات الموالية لإيران، وأدعياء الدين الفاسدين الذين «حللوا» كل أوجه الفساد ابتداء من نهب أموال وأملاك الدولة ومؤسساتها في الأيام الأولى للغزو والاحتلال إلى آبار النفط والقصور الرئاسية.
وانتقل الفساد سريعاً إلى الشركات الأميركية المتعاقدة مع مؤسسات عراقية من بينها الجيش والشرطة. ونشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أن شركة مقاولات خاصة تزود الجيش العراقي الجديد بقطع غيار لسياراته بالغت في تحديد قيمة تلك القطع في الفواتير التي قدمتها للسلطات العسكرية الأميركية؛ وكمثال تم تحديد مبلغ 237 دولاراً سعراً لمرآة سيارة جانبية بينما لا يتعدى سعرها في السوق 14 دولاراً، وسعر كيس صغير يحتوي على حلقات مطاطية رقيقة 196 دولاراً في حين أن سعرها التجاري دولار واحد. والجيش لا يشتري في العادة إلا كميات كبيرة من هذه القطع الاحتياطية، ويمكن قياس الفساد على ذلك في أمور كثيرة أخرى مثل الأسلحة والملابس والأغذية والدروع. الفساد العسكري بدأ برصاصة واحدة وانتهى بصواريخ عمياء وطائرات عسكرية مستعملة، وتفنن السياسيون والوسطاء العراقيون في اختلاس ثروات العراق التي وصلت إلى ضرب تكاليف إقامة مؤتمر لدول الجوار في بغداد عشرات المرات ليصل الاختلاس إلى أكثر من مليار دولار للمؤتمر الواحد، وكان السياسيون الفاسدون يستغلون تخصيصات تلك المؤتمرات لإعادة ترميم وتأثيث قصورهم التي نهبوها من الدولة بعد أن كان يسكنها الوزراء في النظام الوطني السابق قبل 2003.
وكشفت عمليات التدقيق الأولى على 22 ألف عملية تجارية لحساب وزارة الدفاع الأميركية فقط أن السرقات تجاوزت في السنوات الأولى للاحتلال عشرة مليارات دولار. وأظهرت التحقيقات أن التجاوزات لا تقتصر على المبالغة في الفواتير التي تقوم بسدادها من أموال نفط العراق المحتجزة في رصيد النفط مقابل الغذاء والدواء، بل تشمل أيضاً دفع قيمة الفاتورة الواحدة مرتين وأكثر، بالإضافة إلى دفع سمسرة لباعة وعناوين وهمية بفواتير مزورة. واستكمل الفساد المسؤولون العراقيون بعد أن تعلموا «أسرار المهنة» من «المحررين» الأميركيين.
ومع ذلك فإن الأموال المنهوبة ليست القضية. العراق هو القضية. ومعظم الطبقة الحاكمة اليوم فيه بأحزابها وميليشياتها وحشدها هي الفاعل غير المبني للمجهول، كما نقول في لغتنا الجميلة. وشاهدوا ما يحدث هذه الأيام في محافظة ديالى المحاذية لإيران من مجازر ضد القرويين السُّنة انتقاماً من سقوط الميليشيات اللئيمة والحاقدة في الانتخابات البرلمانية. لقد خسر العراق أكثر من مليون شهيد خلال 18 سنة عجفاء.
«المهمة» لم تنتهِ بعد سيادة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن. العراقيون أنفسهم سيضعون النهاية... إذا تعلموا الدرس.