د. ياسر عبد العزيز
TT

هل يواجه «فيسبوك» مؤامرة؟

يمر «فيسبوك» بأحد أكثر الأوقات صعوبة في تاريخه، لكنها لن تكون آخر المتاعب التي سيواجهها؛ إذ يبدو أن العالم بات أكثر قدرة على الشعور بمدى العوار الذي ينطوي عليه.
لقد سال حبر كثير في محاولة تجسيد جوانب الخلل في أنموذج أعمال «فيسبوك»، ورغم ذلك، فإن العالم ظل منشغلاً عن محاولة إصلاح هذا الخلل، ومأخوذاً بمنتج «الألفة والتسرية» الذي يبيعه للمليارات من جمهوره، ومتردداً في تقليم مخالب هذا العملاق الذي لم يكف يوماً عن التغول والاستحواذ.
في الأسبوع الماضي، تلقى «فيسبوك» صفعتين مدويتين؛ أولاهما حدثت بيدي موظفة سابقة لدى الشركة قامت بمهاجمة مارك زوكربيرغ، معتبرة أنه لا يخضع لأي محاسبة إلا من نفسه، واتهمته بـ«التغاضي عن إصلاحات ضرورية لاحتواء مخاطر التفاعلات التي تجري عبر منصاته على بعض الفئات».
أما الصفعة الثانية، فقد حدثت عندما انقطعت خدمات منصاته الثلاث الكبرى «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب» لمدة ست ساعات، ما خلف قلقاً واضطراباً عالميين، وسبب خسائر بالمليارات للشركة ومؤسسها وللاقتصاد العالمي.
لو كنت أحد المفتونين بنظرية المؤامرة، لقلت إن «فيسبوك» يواجه مؤامرة محبوكة وشديدة الإتقان؛ إذ أدرك العالم في أسبوع واحد، وبما لا يدع مجالاً للدحض، أن تلك الشركة محتكِرة ومتغولة، وأنها لا تقوم بالإجراءات الواجبة للحد من أضرار منتجاتها طمعاً في تحقيق المزيد من الأرباح.
لم يكن العالم غافلاً عن هذين الاتهامين، ولم تكن أدلة إثباتهما غائبة، لكن حدث في أسبوع واحد أن تجسد الخطر ماثلاً أمام الجميع؛ فتمت البرهنة على خطورة المنحى الاحتكاري للشركة بما خلفه من اعتماد ملياري عليها في ظل غياب بديل معتبر من جانب، وعلى تغليب الشركة اعتبارات الربحية على مقتضيات صون السلامة العامة من جانب آخر.
خلال صيف عام 2018، صدر كتابان مهمان يوضحان تلك الاتهامات ويفصلانها تفصيلاً محكماً، لكن الحكومات المعنية والمنظمات الدولية ذات الشأن لم تنتبه إلى ضرورة الإسراع في مساءلة هذه الشركة العملاقة، والضغط عليها من أجل إجراء إصلاحات ضرورية وخلق آلية للتنظيم الذاتي لأعمالها هي وغيرها من شركات التكنولوجيا العملاقة.
عنوان الكتاب الأول كان «عشرة أسباب لإلغاء حساباتك على مواقع (التواصل الاجتماعي) فوراً» (Ten Arguments for Deleting Your Social Media Accounts Right Now)، لاختصاصي الحواسيب جارون لانييه، الذي أكد أن تلك الوسائط تكتسب قدرتها على الإضرار بمصالحنا بمجرد استخدامنا لها، وأن هذا التمكن يزيد مع كثرة الاستخدام: «كلما استخدمناها... كلما مكناها من النيل من مصالحنا».
ويشير إلى أن نموذج الأعمال الذي يعتمده «فيسبوك» آخذ في الاتساع، حتى بات يسيطر على جزء معتبر من أنشطتنا الاتصالية والاستهلاكية والمالية. وهو أمر في غاية الخطورة كما يرى لانييه، لأن ازدهار هذا النموذج «يخصم مباشرة من كرامتنا الإنسانية»، بسبب اتصاله المباشر بعاملين جوهريين؛ أولهما: التفريط في خصوصيتنا، وثانيهما: الخضوع لتكنيكات الدعاية السمجة المستندة إلى التلاعب، وعدم احترام عقولنا.
أما الكتاب الثاني، فعنوانه: «الإعلام المعادي للمجتمع: كيف تمكن فيسبوك من الفصل بيننا وتقويض الديمقراطية؟» (Anti - Social Media: How Face Book Disconnected us and Undermines Democracy؟). وكما يظهر من عنوان الكتاب، فإنه أولاً يستخدم عبارة «سوشيال ميديا» على النحو الذي يعتقده الكاتب بوصفها «أنتي سوشيال»، أي «ضد المجتمع»، وليست أسلوباً للتواصل وبناء الروابط الاجتماعية، كما تشير تسميتها المفترضة.
مؤلف «الإعلام المعادي للمجتمع» سيفا فيدياناثان، مؤرخ ثقافي وبروفسور في جامعة فيرجينيا؛ وهو يعتبر أن «فيسبوك» جعل من الخصوصية، التي تحميها الشرائع والدساتير والقوانين ومعايير حقوق الإنسان العالمية، سلعة تُباع وتُشترى. ويرى كيف أن الإغراق في استخدام «فيسبوك» أسهم في الحط من شأن السياسة والسياسيين، وقوض الأساليب الديمقراطية، وأسس لنا «أسوأ منتدى للحوار السياسي»، ملمحاً إلى أن ذلك «الوسيط» يتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عن صعود التيارات الفاشية وازدهار العنصرية في بقاع شتى من العالم.
وفي جانب الاحتكار و«التعملُق» الضار، يكفي أن نعرف أن «فيسبوك» أنجز، على مر السنوات المحدودة التي خلت منذ أطل على مسرح الأعمال العالمي، أكثر من 70 استحواذاً على شركات تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بمجال عمله، ليؤسس وضعاً احتكارياً فريداً، أدركنا مدى خطورته عندما انقطعت خدماته فجأة.
لقد تلقى «فيسبوك» أقوى الضربات في الأسبوع الماضي، لكنها لن تكون الأخيرة، والأمل أن يُجبر على إجراء إصلاحات ضرورية تعظم منافعه وتحد من أضراره.