عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.
TT

أهل الهوى وخُلَّان الهواء

من ضاقَ بمن؟ الناس أم الأرض التي تصرخ ناراً وطوفاناً وتضيق بمن على ظهرها. حرائق تنتقم ممن تلذَّذ سنين بما نبت على ظهر الأرض واستعبده وسخره له الإنسان ناسياً أنَّ لكل الموجودات في هذه الدنيا حقوقاً في الحياة، شجراً وهواءً وتراباً. لكل كائن بسمات وغضب. هل كان للإنسان أن يحيا أكلاً وشرباً وتنفساً من دون منَّة التراب وفضائل أنسام الأكسجين والتمثيل الضوئي وخير المزن الذي ينزل من السماء ويحيي الأرض دون أمر وجهد من البشر؟ الغابات لم يزرعها جهد الناس، بل نبتت من فرحة الأرض والماء بالتلاقي قبل أن ينبت ورق الكائنات الحية في شجرة الوجود.
العصور عبرت الزمان فوق هذه الأرض منذ أن خلقها الله، تتنقل بين التجمد والسيولة تطوف فيها الرياح وتعانقها مياه السماء في سلام لا تزعجه حروب أو شطط يأتي على ما هناك من شجر أو حجر. جاءت الكائنات الحية من بشر وحيوانات؛ فانقلب كل شيء وبدأت مسيرة الفساد في الأرض. قال الله تعالى « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(البقرة: 30).
تلك هي حكمة الله التي لا يعلمها غيره من الملائكة والبشر. الإنسان طموح وأناني بلا حدود، يعمل لتسخير كل شيء لخدمته وتحقيق سيطرته عليه. نحت في الجبال كهوفاً ليسكنها، وصنع من حجارتها أدوات للصيد والقتل والقتال، ثم بنى من ترابها بيوتاً وقطع أشجار الأرض التي أكل من ثمارها. استعبد الإنسان الأرض مبكراً وجعلها مادة طيعة لرغباته وغرائزه التي ليس لها حدود.
رغم كل ذلك، ظلَّت الأرض قادرة على مقاومة أنانية الإنسان الشرسة، وحافظت على مكوناتها الأساسية من نبات وأنهار، وكذلك نقاء الهواء الذي تعيش به كل الكائنات الحية وأولها الإنسان.
الانقلاب الخطير فوق الأرض، بدأ مع الثورة الصناعية، حيث حلَّت المكننة محل العمل اليدوي في أواخر القرن الثامن عشر، وتحديداً في بريطانيا ثم انتشرت في أوروبا الغربية. بدأ إنتاج الحديد واستخدام الطاقة البخارية والتصنيع الكيماوي، تغيَّر كل شيء على الأرض القديمة، وارتفع عدد السكان وتوسَّعت السيطرة الاستعمارية الأوروبية الغربية على العالم. تعملق الطموح وارتفعت دقات غريزة السيطرة عند البشر الجدد، وتشكَّلت - قوة أهل الهوى - التي سخّرت كل شيء لإشباع رغبة الاستمتاع والرفاهية وغريزة استعباد ما في الكون من بشر وخامات بقوة الآلة التي أصبحت أدرع الصناعة والقتال، وأداة لاستعمار الآخرين الذين لا آلة لهم ولا سلاح. الضحية الأكبر للانقلاب الصناعي الذي أخرج ما في جوف الأرض الذي تخلَّق عبر ملايين السنين من فحم حجري وحديد وغاز ونفط وغيرها، استولى عليها أهل الهوى ورفعوها إلى سطح هذا الكوكب المُستعمَر، لتتحول إلى قوة استعباد أخطر. اندفعت الاختراعات من الكهرباء إلى القطارات والسيارات، ولم يعد الإنسان يكتفي بالمصباح الواحد البسيط، بل انتشرت الثريات التي تتدلى منها عشرات المصابيح والسيارات التي تملأ الدنيا ضجيجاً ودخاناً وآلاف الطائرات التي حولت الجو إلى براح مملوء بالحديد الطائر، وزحفت النفايات تغزو البحار والأنهار. قُطعت أشجار الغابات وحُرقت لتسطو الحجارة على مكانها الأخضر. هوى الرفاهية النزق كدَّس كائنات القتل على كوكب الأرض في سنوات قليلة بعد أن عاشت في سلام لملايين السنين.
اليوم صار للخطر الرهيب أفواه وأقلام تصرخ لتقول للبشرية، إنَّ المركب الذي تعيشون فوقه سيختنق بعد أن أصبح بلا رئة، وأن الأرض تشهق بالتلوث وتزفر بالحرارة التي ترتفع بدرجات رهيبة تذيب الجليد الذي يهدي الأرض البرد والسلام. بدأت الطبيعة تنتقم لنفسها، وسلَّطت نيرانها لتحرق ما يبس وما بقي به شيء من الاخضرار، وهاجمت جيوش النيران مشارق الأرض ومغاربها، وتحالف معها طوفان الماء ليُغرِق ما بناه أهل الهوى ويهدد مدناً، بل بلداناً بالزوال غرقاً.
اليوم ترتفع النداءات الأخيرة من العلماء والخبراء، ويلتقي قادة العالم في قمم متلاحقة علَّهم يبدعون ثورة أخرى غير صناعية، بل إنسانية تنقذ ما يمكن إنقاذه من الوجود الطبيعي. هل سيتشكل الجيش الإنساني المدافع عن الأرض والهواء ويكبح الجنون الغريزي الذي لا يبقي شيئاً من عوامل الحياة على هذه الأرض.
معركة الحياة بين أهل الهوى الذين يتجاهلون الوهن الكبير الذي أصاب كوكب الأرض، ويهدد وجود البشر فوقها بسبب الاندفاع العبثي في زخرف الرفاهية الذي لا يتوقف، وأهل الهواء الذين يصرخون من أجل تعبئة قوة العقل والضمير والعلم لإنقاذ الأرض وهم ليس لهم القوة القادرة على مقارعة المسممين وكبح أنانيتهم القاتلة. هل يصدق ما ساقه الكاتب والأديب الأميركي مارك توين في كتابه «الجنس البشري الملعون»؟ حيث قارن بين الإنسان والحيوان وعارض نظرية دارون عن أصل الأنواع، وذهب إلى أنَّ الحيوان أرقى من الإنسان الذي يقتل من أجل الاستمتاع بلعبة الصيد ويعتدي على الأضعف منه، ولا يتردد عن تخريب الطبيعة.
الحيوانات في رأي مارك توين لا تشعل الحروب ولا ترتكب الإبادات الجماعية المنظمة، وقال توين، إنَّ الإنسان هو الحيوان الأقل عقلاً وهو كائن مجنون ومهلوس. خُلَّان الهواء الذين يهبون الحياة للأرض هم قوة الأمل التي تخوض معركة من أجل خليلهم... نرجو ألا تكون الأخيرة.