ربما نشهد نهاية الشرق الأوسط. غني عن القول أن الشرق الأوسط لا يختفي أبداً، وسيستمر في الوجود، وفي أن يكون مصدر إغراء لنا، لكن تلك الحقبة التي كان فيها الشرق الأوسط على رأس الأولويات، وأكبر مصدر قلق للقوى العالمية، قد انتهت تقريباً. فقد ظهرت أجندات جديدة في الشرق، مثل اتفاقية «أوكوس» الأمنية الثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، و«كواد» - وهو حوار رباعي استراتيجي غير رسمي بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وهما اللذان يتعاملان مع قضايا نابعة من الشرق الأوسط، مثل الإرهاب والتطرف والجهات الفاعلة غير الحكومية والدول الفاشلة. فهذه القضايا لا تزال قائمة، وستستمر في الوجود، ولكن من المتوقع أن يتم تهميشها تدريجياً في المستقبل القريب.
بعد نهاية حقبة الحرب الباردة، بات الشرق الأوسط النقطة المحورية للسياسة العالمية، واستمر كذلك لمدة 3 عقود. وفي 11 سبتمبر (أيلول)، ليس في عام 2001، بل في عام 1990، ألقى الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب كلمة أمام الكونغرس حول رؤيته لبناء «نظام عالمي جديد» في مواجهة أزمة الخليج العربي، وجاء الانتصار على العراق في حرب تحرير الكويت في العام التالي بمثابة إعلان عن بزوغ فجر عصر الهيمنة الأميركية. ومنذ ذلك الحين، ظلت الأزمات الكبرى تنشأ باستمرار من الشرق الأوسط، وقادت القوة العظمى الوحيدة، وهي الولايات المتحدة، العالم في الصراع مع تلك المنطقة من العالم.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، أعلن جورج بوش الابن «الحرب على الإرهاب» التي كانت فكرة شاملة في العقدين التاليين، وسيطرت على سياسة الدفاع والأمن الأميركية، التي حتمت على الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة التأقلم معها، سواء رغبت أم لا.
بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة في آسيا، مثل اليابان أو كوريا أو أستراليا، كان من الضروري بالنسبة لهم أن يتدخلوا بعمق في الشرق الأوسط لمرافقة الولايات المتحدة والتعاون معها في حربها على الإرهاب، وإعادة تشكيل المنطقة بعد ذلك من أجل الحفاظ على وجودها. ولذلك كانت هناك حاجة ماسة لتعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة بصفتها الضامن الأكيد للأمن. وهكذا، تمحورت سياستهم الدبلوماسية والأمنية حول الشرق الأوسط في العقدين الماضيين.
وجلبت الانتفاضات العربية هواءً نقياً إلى المنطقة في عام 2011، واجتذبت انتباه المراقبين الغربيين لبعض الوقت، لكن الحروب الأهلية والدمار الذي أعقب ذلك جلب إحساساً عميقاً بخيبة الأمل واليأس، وأدى صعود التطرف إلى القضاء على ما تبقى من أمل.
الآن، وبعد أن غادر الجيش الأميركي أخيراً أفغانستان والعراق العام الحالي، بات الشرق الأوسط بعيداً عن قلق العالم، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تغييرات سواء للأفضل أو الأسوأ في المنطقة. ويمكن لهذا الوضع الجديد أن يحرر المنطقة تدريجياً، وبشكل ثابت، من التدخل الأجنبي ومن الخلافات، على الرغم من أنه قد يحرم فعلياً كثيراً من القوى في الشرق الأوسط من مصادر دخلها وتأثيراتها.
وفي المقابل، فقد تحولت بؤرة التركيز في السياسة العالمية صوب منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تتزاحم عليها القوى العالمية والإقليمية، فلطالما انتظر حلفاء الولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادئ، خاصة اليابان، التحول الاستراتيجي للولايات المتحدة نحو آسيا والمنطقة الأوسع.
وأطلق الرئيس باراك أوباما على نفسه لقب «أول رئيس لأميركا في المحيط الهادئ»، خلال زيارته إلى طوكيو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009، في أول عام له في منصبه، على الرغم من جمود محوره الآسيوي خلال فترة ولايته المتبقية، حيث وقع في مستنقع متفاقم من التمرد في أفغانستان وسوريا والعراق.
وتبنى الرئيس ترمب أجندة إعادة الانخراط في آسيا، بصفتها أولوية، من خلال تعزيز فكرة «منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة المفتوحة» في خطابه في قمة «منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ»، في مدينة «دا نانغ» بفيتنام، في نوفمبر (تشرين ثاني) 2017. وكانت المرة الأولى التي جرى فيها طرح فكرة «منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة المفتوحة» عن طريق رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في العام السابق، وتم دمجها في المصطلحات والتصميم الكبير لاستراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة التوسع الصيني تحت شعار «مبادرة الحزام والطريق». ومع ذلك، توقف ترمب عن اتباع هذا النهج الجديد عندما انتهت فترة رئاسته فجأة في ظل انتشار العدوى الجماعية لجائحة «كوفيد - 19»، واضطراب الانتخابات الرئاسية.
وأخيراً في عام 2021، قام الرئيس جو بايدن، بعد الانتهاء من الانسحاب من أفغانستان في نهاية أغسطس (آب) الماضي، وتوديع الحرب على الإرهاب في الذكرى العشرين لـ11 سبتمبر، بتوجيه الضغط بالكامل إلى آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ الأوسع. وأظهر الإعلان المفاجئ لاتفاقية «أوكوس»، في 15 سبتمبر، العزم والالتزام الأميركي بالحفاظ على توازن القوى في المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة الصين الصاعدة، وإقامة علاقة قوية مع المملكة المتحدة وأستراليا، وتبادل التكنولوجيا والخبرة لإنتاج غواصات تعمل بالطاقة النووية، على الرغم مما يترتب على ذلك من إهانة واستبعاد لفرنسا التي صدمها التحالف الجديد للمثلث الناطق باللغة الإنجليزية، وشعرت بالخيانة بشكل خاص من قبل أستراليا التي ألغت من جانب واحد عقداً بقيمة 66 مليار دولار كان من المفترض بموجبه أن تزود فرنسا أستراليا بغواصات تقليدية.
وعلى الرغم من ذلك، فحتى فرنسا المستاءة ليس لديها خيار آخر سوى الاستمرار في الالتزام بهذه المنطقة الحاسمة من المحيطين الهندي والهادئ، جنباً إلى جنب مع جيرانها الأوروبيين، مثل ألمانيا وهولندا، إذ إن تلك المنطقة هي مركز النمو والجغرافيا السياسية في القرن المتبقي.
ولم يكن الشرق الأوسط على رأس جدول الأعمال، سواء في اجتماع قمة مجموعة السبع في «كورنوال» بالمملكة المتحدة في يونيو (حزيران) الماضي أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر. ولم يلتقِ الرئيس بايدن بزعماء شرق أوسطيين علناً في أثناء إقامته في نيويورك بمناسبة خطابه في الأمم المتحدة في 21 سبتمبر.
وبعد ذلك، عُقد أول اجتماع قمة شخصي لمجموعة «كواد»، وهو الحوار الأمني الرباعي، في 24 سبتمبر في العاصمة واشنطن، الذي شمل الهند واليابان، جنباً إلى جنب مع أستراليا، والذي يعد الآن عنصر «أوكوس» الحاسم.
وجاءت اتفاقية «أوكوس» لتغير قواعد اللعبة في إمالة الميزان العسكري ضد الصين لصالح أميركا، في حين أن «كواد» يميل أكثر نحو الأمن الاقتصادي الذي يجري فيه توحيد القواعد واللوائح للنظام الحالي لنظام التجارة الحرة وحرية الملاحة من أجل تقييد السلوك الأكثر حزماً للصين يوماً بعد يوم.
ويجري تشكيل تحالف عريض لما يسمى «القوى البحرية» أو الدول البحرية للتحوط من التوسع الصيني، فيما تتصدى الصين بوسائلها، مثل «منظمة شنغهاي للتعاون»، وهي في الأساس تحالف من «القوى البرية». ولذلك، فإن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي منطقة شاسعة يحتضنها بحر خامد، تغلي بمنافسة جيوسياسية محتدمة.
- أستاذ الدين والأمن العالمي بجامعة طوكيو - خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:2 دقيقه
TT
المنافسة في «منطقة المحيطين»... ونهاية عصر الشرق الأوسط
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة