د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الفأر... الجِرمُ الصغير

«وَتَحْسَبُ أَنَكَ جرْمٌ صَغِيرٌ، وَفيك انطَوَى العالم الأكبرُ»، هذه العبارة التي تنسب إلى الإمام علي لا شك أنها واقعية وجميلة. غير أنه يقف على الضفة المقابلة جرم أصغر، يرمقنا بنظراته طوال العام، وهو الفأر الذي ندين له بالفضل الكثير، حيث كشف في سلوكيات البشر ما كان خافياً. فعبر فئران التجارب، اكتشفنا كيف يمكن أن نغير عاداتنا، وسلوكنا الاجتماعي، والإبداعي والكثير من خفايا النفس البشرية. فحتى الإبداع تمكن «والت ديزني» أن يستلهمه من ذلك الفأر الباسم «ميكي ماوس» الذي بات أيقونة مدينته الترفيهية التي لم يشهد لها نظير في العالم. كان ذلك في لحظات صفاء عندما رسم ملامح الميكي ماوس وهو في أحد القطارات.
الفأر هو الذي كشف لنا أننا يمكن أن نغير من عاداتنا اليومية السلبية، وذلك عندما شاهده العلماء وهو يلتهم قطع الشوكولاته في متاهة وضعت له، ينطلق إليها كلما سمع صوت الصافرة. وبتأمل دماغه وجدوه يفعل ذلك لاحقاً على نحو تلقائي، أي من دون جهد ذهني يذكر، وهو ما فسره الباحثون بأنه مثل عاداتنا التي يمكن أن تتشكل بالمران المتواصل لفترة قصيرة، كاستخدام فرشاة الأسنان وقيادة السيارة التي كانت صعبة للغاية ثم أضحت عادة تلقائية. فالفأر أرشدنا علمياً إلى قدرات دفينة يمكن من خلالها أن نكتسب مهارات، لو أننا تجاوزنا عقبتي التسويف والتردد.
والفأر هو الذي كشف العلماءُ من خلاله أن صيامه يجدد نظام المناعة بشكل تام ويخلصه من الخلايا القديمة التالفة التي تستبدل إلى طاقة في ظل غياب الطعام بجسمه الشبيه بجسم الإنسان، بحسب جامعة جنوب كاليفورنيا. وهذا الجرم الصغير هو الذي علمنا أنه لو توقف إفراز هرمون السعادة (الدوبامين) في أجسادنا سوف نفقد الرغبة في الحياة، تماماً كما حدث لتلك الفئران عندما وصّل العلماء أقطاباً في أدمغتها ثم منع منها الهرمون، فامتنعت عن تناول الطعام، وممارسة عاداتها اليومية بشكل اعتيادي. والأسوأ أنها فارقت الحياة من شدة العطش. كان ذلك في دراسة شهيرة عام 1954 للعالمين جيمس أولدز وبيتر ميلنر. وعرفنا أيضاً أن الفأر كذلك لديه شخصية تميزه عن نظرائه. فحينما وضعه العلماء مع غيره ظهر 60 سلوكاً مميزاً، فهو لديه طرق للاستكشاف، والمطاردة، والاختباء، والفرار، ومشاركة الطعام مع الفئران الأخرى. فهو مثلنا يمد يد العون لمن يريد.
هذا الجرم الصغير، ما زال من أفضل الكائنات الحية لدى العلماء لمعرفة سلوكيات الإنسان في نواحٍ كثيرة. وما أكثر ما يرشدنا إلى مواطن القوة والخلل في نفوسنا، فهل من مُدَكر؟!