زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

قصة الشرق الأوسط

عندما سئل الدبلوماسي المخضرم دينس روس، مستشار البيت الأبيض السابق، عما يحدث اليوم في السعودية من تغييرات اجتماعية وثقافية واقتصادية، قال «لولا الصراعات في المنطقة لأصبح ما يجري في السعودية من تحولات هو قصة الشرق الأوسط». كان محقاً السفير الأميركي في ذلك، وأضيف أيضاً أن قصة السعودية ذاتها هو إنسانها، لا سيما وهي تحتفي هذه الأيام بذكرى عيدها الوطني وبمرور 91 عاماً على نشأتها.
ما يجعل من التحولات الثقافية والاجتماعية أمراً ليس باليسير هو المدة الزمنية، حيث تحتاج إلى وقت ليس لكي تتضح تأثيراتها، إلا أنه يمكن تسريع هذا التحول في منطقتنا وثقافتنا ومجتمعاتنا عندما يتوفر لديك قرار سياسي حاسم كونه يختزل فترات التحول الاجتماعية البطيئة بحكم الطبيعة البشرية، ويعجل في دفع الأمور إلى الأمام. هذا لا يعني عدم وجود فوارق اجتماعية في استيعاب ما يحدث وقبوله وهضمه، فهذا أمر طبيعي، لا سيما في البدايات وهي حبلى بالصعوبات بطبيعة الحال، لأن البعض يخشى الجديد ولا يميل إلى التغيير والتجديد، لكن قرار الأغلبية هو الذي يسري في نهاية المطاف بدليل الاستطلاعات التي صدرت منذ سنوات، وأشارت إلى تأييد غالبية المجتمع السعودي للقرارات والتغييرات التي يقودها ولي العهد بعزيمة لافتة.
المتابع للداخل السعودي يلحظ أن ثمة حراكاً فاعلاً وتحولاً جذرياً على الأرض في كافة مناشط الحياة، والأهم من كل هذا تجاوز الشعب السعودي للمسائل التقليدية الخلافية وكسر العوائق الهلامية ما يعني أن حالة من النضج العام والاستيعابية والعقلانية بدأت تلقي بظلالها على المجتمع. المتابع يرى أن ما يجري في السعودية خلال الأربع السنوات الماضية أمر يستحق الدراسة والتأمل، وهي ظاهرة اجتماعية تقتضيها متطلبات العصر ولا بد من ممارستها من أجل المرور إلى مرحلة أفضل ضمن السياق الإنساني والاجتماعي، وبما أن المجتمع السعودي ليس مجتمعاً ملائكياً كان عليه أن يواجه ذاته بذاته، وبالتالي كان منطقياً أن تتراكم التجربة السعودية وتتفرد في نموذجها.
كان بإمكان القيادة عدم اتخاذ قرارات صعبة والادعاء بأن الأمور على خير ما يرام، ولكنها عادة ما تنزع إلى وضع مصلحة بلدها ومستقبل أجيالها القادمة في المقدمة. دولة كانت تتهم بالرجعية والانغلاق، تتصدر اليوم دول المنطقة والعالم العربي في الجوانب السياسية والاقتصادية والتعليمية والاستثمارية والرقمية، فضلاً على تجديدها لخطابها الديني وانفتاحها الاجتماعي والنقلة النوعية أيضاً في مناهج التعليم والمشاركة الفعلية بين الرجل والمرأة في القرار والتنمية. قرار التغيير والانتقال لمرحلة جديدة يُعد قراراً استراتيجياً، لأنه يعني السيرورة كدولة والانطلاق في مسار التحديث والتنمية للولوج لساحة المنافسة ومحو الصورة النمطية بالأفعال. الملاحظ أنه لا يكاد يمر شهر إلا ويصدر شيء جديد في السعودية يصب في مصلحة الإنسان والدولة. قرارات وتنظيمات وقوانين وتشريعات في شتى المجالات تدفع باتجاه تحقيق حلم على أرض الواقع، أي تجسيد دولة مدنية حديثة متمسكة بهويتها وتقارع الآخرين بما تملكه من موارد بشرية ومقومات وإمكانات.
من حق السعوديين والمقيمين فيها أن يعيشوا حياة طبيعية، ويمارسوا كل ألوان التسلية والرياضة والفنون، وأن تتاح لهم في بلدهم وسائل الترفيه بدلاً من سفرهم للخارج بحثاً عنها. هم مثلهم مثل غيرهم يبحثون عن سبل حياة كريمة والطموح لا سقف له والهدف دولة مدنية عصرية. أمر كهذا كان ضرباً من الخيال في العقود الماضية واليوم تستقبل المملكة أهلنا في الخليج والعرب والسياح الأجانب بصدر مفتوح وترحيب صادق.
التلون الثقافي والاجتماعي والمذهبي والرصيد التاريخي للسعودية وجغرافيتها الشاسعة وإرثها الضخم وقيمها وطبيعة العقد الاجتماعي... كلها عوامل مهمة ومقومات مغرية استشعرت القيادة بضرورة استثمارها وتوظيفها لمصلحة الوطن عبر رؤية 2030.
91 عاماً مرت على تأسيس المشروع الوحدوي اللافت الذي صنعه المؤسس الراحل الملك عبد العزيز ومن معه من رجال أرض الجزيرة. قصة تلاحم وتجربة فريدة عربية تبلورت لتصبح في سنوات ضمن مجموعة العشرين لترسخ مكانتها كدولة محورية ورقم صعب لا يمكن تجاوزه ويكشف عن مكانتها في الخريطة الدولية ودورها في صياغة القرارات السياسية والاقتصادية العالمية.
قبل أيام اختُتمت أعمال لقاء نيوم لقطاع البناء بحضور 150 شركة عالمية ومحلية في قطاع التصميم والبناء في السعودية.
جاء مشروع نيوم على سبيل المثال كرسالة للداخل والخارج تمثل ما نريده حقاً كمجتمع في دعم تحقيق رؤية المملكة 2030 من حيث تنويع مصادر الدخل، ويتميز بتفرده من حيث مستقبلية الرؤية وضخامة الأعمال والمشاريع وتنوعها، ويعكس بحق بعد مرحلة طويلة من هيمنة خطاب الصحوة، قدرتنا على التعايش والإنجاز، والقدرة على الابتكار والمساهمة في تشكيل حضارة إنسانية جديدة.
احتفاء السعوديين بذكرى بلادهم الوطنية تعكس بهجتهم بالتحولات التي تعيشها بلادهم كونه أمراً يفوق التصور، وأغلب المتفائلين لم يدر بخلدهم أن يدركوا هذه الإصلاحات في حياتهم. الرؤية الشجاعة والإرادة الجادة والمشاريع المهيبة معادلة كرستها السعودية لتجعلها ومن خلالها تحت الأضواء بشكل إيجابي وبصورة أكثر إشراقاً واحتراماً وتقديراً.