جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

وجوه قديمة بأصباغ جديدة

المتابعون للساحة السياسية البريطانية، حتى من مسافة ليست قريبة، ربما لاحظوا في السنوات الأخيرة حضوراً غير عادي إعلامياً لكثير من رؤساء الوزراء السابقين، وهو أمر غير مألوف، وخارج عن السياق المتعارف عليه. العادة جرت أن لدى مغادرة رؤساء الحكومات المقر المعروف، في 10 داوننغ ستريت، للمرّة الأخيرة، لا يظهرون مجدداً إلا قليلاً، وفي مناسبات خارج الإطار السياسي. لكننا، في الآونة الأخيرة، صرنا لا يكاد يمر أسبوع من دون أن نقرأ أو نشاهد تقارير مقروءة أو مرئية لرئيس وزراء سابق، تتناول شأناً سياسياً محلياً أو إقليمياً أو دولياً. ما يثير الاهتمام هو أن الرؤساء المعنيين، استناداً لأحكام أصدرها معلقون سياسيون معروفون، يعدّون ضمن قائمة طويلة من رؤساء الحكومات غير الناجحين. الظاهرة الجديدة لفتت اهتمام وسائل الإعلام، وتعرض لها كثير من الكتاب والصحافيين.
آخر ما اطلعت عليه في الأسبوع الماضي تقرير إخباري رصدته منشوراً في كثير من الصحف القومية، بمناسبة الذكرى العشرين لأحداث (9-11) في أميركا، ويتناول محاضرة لرئيس الوزراء العمالي الأسبق توني بلير، يحذّر فيها أميركا ودول الغرب من احتمال تعرضهم مستقبلاً لحرب إرهابية جرثومية. المشكلة أن توفر منصات لهؤلاء الرؤساء السابقين ليطلوا منها على المواطنين وعلى أهل الساسة لا يعني أنهم يجدون آذاناً صاغية. لكنهم، على أي حال، مستمرون في أنشطتهم، ويحرصون على ألا تفوتهم فرصة للظهور في وسائل الإعلام المختلفة.
الملاحظة الأخرى هي أن رؤساء الحكومات السابقين، عقب خروجهم من مقر الحكومة، ينسحبون كلية من الحياة السياسية، أو يرجعون إلى شغل مقاعدهم في البرلمان، ويبدون في الصورة العامة على شكل ظلال باهتة، أو يظهرون كأشباح مهزومة، وقد جلسوا صامتين وسط زحمة المقاعد الخلفية محاطين بالوجوه غير المعروفة والأسماء المجهولة. أضف إلى ذلك أن فترة عودتهم إلى البرلمان عادة ما تكون قصيرة بشكل لافت. ينتقلون بعدها إلى مجلس اللوردات، أو يختارون البقاء في بيوتهم وكتابة مذكراتهم أو سيرهم الذاتية، أو يقومون بالعودة إلى الساحة السياسية الدولية من باب خلفي، من خلال تقديم الاستشارات لكثير من الدول، كما فعل توني بلير، أو الشركات الكبرى، كما فعل ديفيد كاميرون، أو بالانخراط في قضايا التعليم والتنمية والمؤسسات المالية الدولية، كما يفعل غوردن براون. لكننا مؤخراً تابعنا على شاشات القنوات التلفزية الإخبارية حضوراً برلمانياً متميزاً لرئيسة الوزراء السابقة السيدة تيريزا ماي، إذ لا تكاد تمر مناقشة لرئيس الحكومة في البرلمان من دون أن تكون في المركز منها. ولعلنا لا ننسى النقد الذي وجهته مؤخراً من مقعدها البرلماني إلى رئيس الحكومة لدى عملية الانسحاب العسكري من كابل، واستحواذ قوات حركة طالبان على العاصمة، حيث تساءلت قائلة: «أين بريطانيا العالمية في شوارع كابل؟»؛ إشارتها إلى العالمية (Global) لمزة انتقاد حادة في رئيس الحكومة السيد جونسون، والوصف الذي سمعناه يردده بشغف بعد «بريكست» بأن بريطانيا صارت عالمية. فما الذي حدث؟ وما الذي جعل جون ميجور، وتوني بلير، وغوردون براون، وتريزا ماي، يقررون العودة إلى الساحة السياسية، غير آبهين بما ترسخ فيها من تقليد وطده رؤساء حكومات كثيرون قبلهم؟
هناك احتمالات، أو بالأحرى تفسيرات، كثيرة يكون من المجدي الإشارة إليها في هذا السياق، على أمل أن تضيء أمامنا بعضاً من عتم الطريق، وتقودنا إلى ضفة آمنة لفهم الظاهرة إن أمكن، أو بالأحرى إن وجدت. قد يكون أولها أن الرؤساء المذكورين أعلاه دُفعوا بقوة إلى خارج الصفوف الأمامية، رغماً عنهم، عقب تعرضهم لخسارة انتخابية كبيرة، مثل السيدين جون ميجور عام 1997، وغوردون براون عام 2010. وربما يكونون قد غادروها مترددين، عقب تورطهم في قضايا شائكة أو خلافات داخلية أو حروب، مثل السيد توني بلير، وقراره التدخل في أفغانستان والعراق، وقبله الصراع العدائي الذي وسم فترة حكمه الأخيرة مع خليفته غوردون براون، ولم يعد ممكناً حجبه عن العلن. وقد يكونون مثل السيدة تيريزا ماي، وما أحاق بحكومتها من فشل ملحوظ، خاصة المتعلق بتحقيق «بريكست»، مما استدعى منها التفكير، ووصولها إلى قرار بالعودة إلى الحلبة السياسية، على أمل توثيق صفحة مختلفة إيجابية تكون بمثابة تكفير عن فترة ترأسها للحكومة، وربما أيضاً محاولة لكتابة صفحة ناصعة قليلاً في صفحات تاريخ شخصي غير ناصع كثيراً. وما يجمعهم جميعاً هو أنهم خرجوا من الصفوف الأولى قبل أن ينالهم الهرم، وتنشب فيهم الشيخوخة أنيابها لتأتي على ما تبقى لهم من طراوة شباب. وهناك احتمال آخر، وهو أنهم يرون أن من خلفوهم ليسوا بالمستوى المطلوب، ولا يرقون إلى مستوى مهاراتهم السياسية، من خلال ردود فعلهم وتصرفاتهم في كثير من القضايا والأحداث. لذلك، لا بأس من وضع أصباغ جديدة على وجوههم القديمة، ومحاولة العودة عبر ما توفره وسائل الإعلام من نوافذ.