زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

عندما يختصم المتطرفون!

هل تصبح أفغانستان ساحةً للصراع بين التنظيمات الراديكالية ومحاولة كل تنظيم سحب البساط من الآخر؟
حركة «طالبان» لا تنتمي عضوياً إلى تلك الجماعات الإرهابية، لكن الخشية من أنَّها قد توفر ملاذاً آمناً لتلك الجماعات، حيث البيئة مناسبة لتكاثرها وتوالدها. اليوم في أفغانستان مؤشرات قوية نحو دخولها في نفق الحرب الأهلية؛ ما يعني ثمة أنَّ أطرافاً متنازعة وأطراف أخرى لا تتردد في الاستفادة من هكذا مناخ. التركيبة القبلية والتنوع العرقي هما الأرضية التي يرتكز عليها ذلك البلد، والبداية حدثت مع الصراع ما بين «طالبان» والطاجيك وزعيمهم الشاب أحمد مسعود والسيطرة على وادي بنجشير لا يعني أن الأمور قد حُسمت. كنا نتصور أن المزاج العام قد تغير لدى الحركة، ولكن جاء أول إخفاق معلن لحركة «طالبان» في عدم تشكيل حكومة شاملة تمثل كل العرقيات من البشتون والأوزبك والهزارة والطاجيك وغيرهم. كان بإمكانها أن تحقق لها حضوراً وقبولاً ورضا وتنفذ ما وعدت به وتفتح الباب لجميع الأطياف الأفغانية، إلا أنَّها أخلفت الوعد، وبالتالي المجتمع الدولي يعتبر أفعالها مناقضة لأقوالها. يبدو أن التحديات ما زالت تتوالى هناك رغم ادعاء «طالبان» بعد وصولها للسلطة أنَّه لا توجد موانع تمنع الأمن والاستقرار، في حين أنَّ الاستحقاقات الكبيرة قادمة، فضلاً عن تحديات اقتصادية مهولة وفق صندوق النقد الدولي؛ فاقتصادها يتَّسم بالهشاشة والتدهور والانكماش.
أفغانستان سوف تعاني أيضاً من هروب الاستثمار والسياحة والتعاون الدولي، ناهيك عن الحالة الاجتماعية والفقر، وهي نتيجة طبيعية للفشل المتراكم من عقود، ولكنها أيضاً بالمقابل ظرف مُغرٍ تستفيد منه التنظيمات الإرهابية في تجنيد صغار السن. الأمن والاقتصاد مرتبطان بلا أي شك، ويبقى التحدي المجتمعي قائماً بوجود جيل جديد وهوية ليبرالية عمرها عقدان للخلاص من الممارسات الماضية لـ«طالبان».
وبالعودة لفكرة المقال التي تدور حول صراع الجماعات المتطرفة مع بعضها بعضاً، ولا غرابة في ذلك ففي عالم الإرهاب هناك أيضاً منافسة شرسة بين الأطراف وتحدٍ ومحاولة التسلق للوصول للقمة. المشهد كان حاضراً في العراق وسوريا وليبيا ومع وجود «القاعدة» وميلاد «داعش»، ناهيك عن محاولات الجماعات المتناثرة في أفريقيا. في أفغانستان يتكرر المشهد ولو بصورة مختلفة؛ ولذا الأنظار شاخصة صوب كابل والشهية مفتوحة، بدليل أن تلك الجماعات لم تخف سعادتها باستيلاء «طالبان» على السلطة.
في عام 2014 قام تنظيم «داعش» بمهاجمة كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في مجلة «دابق» الناطقة باسم التنظيم، فاتهم بن لادن بأنه مرجئ ومخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة، وأن الظواهري شخص منحرف وضال. وهاجم التنظيم حركة «طالبان» متهماً رئيسها الملا محمد عمر بأنه رأس من رؤوس الضلال في أفغانستان، وواصل التنظيم هجومه ليطال أبو قتادة الفلسطيني وأبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي ومحمد النظاري، حيث وصفهم بأنهم من رؤوس الضلال والمشايخ الذين يدعون الناس على أبواب جهنم. (العربية نت).
هذا التنابز والتهجم أمر ليس بالجديد بين هذه الجماعات الإرهابية؛ ولذا لا نستغرب مثل هذا التكتيك الداعشي آنذاك؛ لأنه صراع على مشروعية الاستحقاق والتمثيل لهذا التيار بالمجمل عن طريق سحب البساط من كل الجماعات الأخرى للاستحواذ على المكانة والمرتبة والمشروعية، وبالتالي أحقية التفرد بالسلطة، لا سيما وقد نجحت آنذاك في استقطاب الشباب باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي؛ ولذلك كان من المهم للتنظيم تشويه الآخرين والتقليل من مكانتهم والانتقاص من أدوارهم، وهي أساليب معتادة من هذه الجماعات تمارسها ضد بعضها بعضاً رغم المرجعية الفكرية الواحدة.
«داعش» بزّ غيره من التنظيمات الإرهابية من حيث التجنيد والتكتيك والتوسع والاستقطاب، واستخدام أساليب جاذبة وخيالية عبر الصورة والرسالة الإعلامية المؤثرة لانضواء الشباب المسلم وكسب تعاطفهم. هذا التنظيم استغل وبخبث نزاعات المنطقة واستثمرها لمصلحته بما لها من قابلية للعنف والانتقام لدى الشعوب، ناهيك عن إيجاد طرق جديدة من تهديم للإرث الحضاري الإنساني، وصولاً إلى فنون الإبادة والتشنيع والذبح والحرق بهدف إدخال الرعب في قلوب المسلمين والمستأمنين.
هذه الجماعات الإرهابية قد تختفي من الساحة، ولكننا لن نتفاجأ إذا ما ظهرت لنا بعد أشهر أو بضع سنوات جماعة أخرى باسم آخر تحمل ذات الفكر الداعشي وآيديولوجيا «القاعدة»، وهنا يكمن لبّ المعضلة. الفكر هو الجذر المفصلي لكبح الإرهاب؛ لأنه يمنع توالده وتكاثره؛ ولذا فإن المهمة تقع بلا شك على عاتق الدول العربية إن أرادت فعلاً تحصين عقول شعوبها، وذلك بنشر الثقافة التنويرية، انطلاقاً من إعادة النظر في خطابها الديني، فضلاً عن تقديم البديل فكرياً وسياسياً؛ ما يكرس التسامح واحترام الآخر وعقائده، وبالتالي استبعاد خطاب التطرف. الفكر لا يواجه إلا بفكر مماثل، أي نقد لأدوات وآليات ومضامين هذا الفكر من حيث اللغة والتوجه والأداة والمفهوم والرؤية والمنهج، وليس باجترار مقولات مستهلكة. من المهم الرد على تلك الطروحات المتشددة وتفكيكها وتعطيلها استناداً للسياسة الشرعية وفقه الواقع والاستنباط الفقهي.
صراع الجماعات المتطرفة مع بعضها بعضاً أمر ليس بالجديد؛ فأدبياتهم تجيز ذلك، وها هي «داعش خراسان» لا تلبث أن تصطدم بالجماعة الإرهابية الأخرى «القاعدة» في أرض «طالبان» رغم أنهم جميعاً ينتمون إلى الشجرة الآيديولوجية ذاتها، ويبقى الهدف المراد للجميع التفرد والاستحواذ وامتلاك الساحة، وبالتالي تحقيق الحلم المتخيل في أذهانهم.