فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الكتابة... أو الجنون!

كان جورج آرويل يقول إن السيرة الذاتية التي لا تكشف لنا عن «الفظائع» في حياة صاحبها هي ليست بسيرة ذاتية. والمقصود بالفظائع هنا، أن يكشف لنا الكاتب عن نقاط ضعفه، التي لا بد أن يعاني منها أي إنسان، وهشاشته في مراحل من حياته، وانكساراته في مسيرته الحياتية والأدبية، وبكلمة واحدة أن تكون السيرة صادقة، فلا يجمّلها، كاشفاً منها ما يريد، ومخفياً منها ما يشاء. وبهذا المعنى، فإن كتب السيرة الذاتية، خصوصاً العربية، قليلة جداً، على عكس ما نرى في معظم كتب السيرة الغربية، من جان جاك روسو في اعترافاته إلى جانيت فريم، الكاتبة النيوزيلندية (1924 - 2004)، التي تعد واحدة من أهم كتاب بلدها. وحققت هذه المكانة بسبب سيرتها بالدرجة الأولى، التي صدرت في ثلاثة أجزاء، أُعيدت طباعتها عدة مرات، وتحول جزء منها «ملاك عند مائدتي» إلى فيلم، وأيضاً بعدما نشرت روايتها «البوم يصرخ»، التي استندت أساساً على سيرتها، ومنها قضاؤها ثماني سنوات في مستشفى الأمراض العقلية.
سيرة مفزعة حقاً، لكنها ترويها، رغم استخدامها صيغة المتكلم، بحيادية كبيرة، كأنها تتحدث عن شخص ثالث لا علاقة لها به... لا كلمات أو مشاهد تستدعي الشفقة أو رثاء الذات، على الرغم من الفجائع التي مرت بها في مراحل حياتها الأولى، من فقدانها شقيقتيها إلى إصابتها بالشيزوفرينيا، وهي بعد في أول شبابها، وبداية مسيرتها الكتابية.
لقد وُلدت جانيت فريم في بيت لا يسكنه سوى الشِّعر... شعر يرتله الأب على أبنائه كل مساء بصحبة الموسيقى، وأم شاعرة، تحولت لاحقاً إلى ربية بيت. وظل الشعر هاجسها المقيم. واعتادت كلما حاصرها أبناؤها بأسئلتهم اللحوح عن الحياة، تقول لهم: اقرأوا الشعراء... تجدوا الأجوبة. امتلأت الطفلة جانيت بالشعر. لا حياة شخصية، ولا أصدقاء. كانت تكتفي بصحبة الشعراء الموتى:
شكسبير، وردزورث، بيرسي شللي، جون كيتس، توماس هاردي، دبليو.إتش. ييتس، ت.س. أيوت.
منذ طفولتها المبكرة، كانت تقول للجميع: أريد أن أكون شاعرة. لا شيء آخر. حين امتهنت التعليم بعد تخرجها، قطعت فجأة إحدى حصصها التدريسية... اعتذرت ثم غادرت المدرسة ولم تعد. لم تكن تريد أن تكرس نفسها لأي شيء آخر سوى الشعر، مخافة أن تعيد أمها التي تحولت من شاعرة إلى ربة بيت، وهي لطالما انتقدت أمها على فعلتها «الشنيعة» هذه.
في تلك الفترة المبكرة، بدأت الشيزوفرينيا تزحف إلى رأسها. لم يحتمل الرأس الصغير المسكون بالشعر التناقض الدامي بين الحياة كما تريد، والحياة بمتطلباتها التي لا تنتهي، والتي لا بد من تلبيتها، وإلا عاقبتك على ذلك.
وكان عقاب جانيت فريم رهيباً: الجنون، أو هكذا صوَّر لها الأمرَ العقلاءُ، العمليون، الناجحون في الحياة، المنحدرون في مجراها، القابضون عليها من يمينها وشمالها. لم تقاومهم قط. كأنها كانت تتواطأ معهم... كأنها كانت تريد ذلك. كم مبدعاً يتمنى أن يصاب بالجنون لهول هذه الحياة التي تريد منك أن تختار بينها وبين الكتابة؟ اعتاد دوستويفسكي أن يقول: مشروعي القادم الجنون. وقضى الألماني العظيم هولدرلن ثلاثين سنة في مستشفى الأمراض العقلية.
لكن الصدف تكون رحيمة أحياناً. قرأ الطبيب المعالج قصيدة لها في جريدة محلية، وهي أول قصيدة تنشرها، وتَغير الأمر كلياً. أطلق الجنون سراحها.
وستظل جانيت فريم تقول دائماً: لقد أنقذتني الكتابة.